للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ وَلَا الْحَدِيثُ بِحَدِيثٍ آخَرَ لَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ وَلَا نَصُّ الْكِتَابِ بِنَصٍّ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ النَّصُّ بِقُوَّةٍ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ حَتَّى صَارَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى مِنْ الْغَرِيبِ؛ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ تُوجِبُ قُوَّةً فِي اتِّصَالِهِ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

ــ

[كشف الأسرار]

أَوْلَى بِالتَّرَجُّحِ مِنْ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِتَقَوِّيهَا بِكَثْرَتِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَثْرَةِ أُصُولِهَا أَيْضًا.

وَذَهَبَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَتَقَوَّى بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ لَا بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِ الْمَوْصُوفُ فَأَمَّا الدَّلِيلُ الْمُسْتَبِدُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الَّذِي يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِهِ فَيَتَسَاقَطُ الْكُلُّ بِالتَّعَارُضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أُصُولٍ؛ لِأَنَّهَا بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِصِحَّتِهَا تَقَوَّتْ فِي نَفْسِهَا فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى بِتَقَوِّيهَا فَأَمَّا الْعِلَلُ فَلَا تَتَقَوَّى بِكَثْرَتِهَا، وَلَا بِكَثْرَةِ أُصُولِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ عِلَّتِهِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْهُ لَا بِصِحَّةِ عِلَّةِ أَصْلِ آخَرَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قُوَّةَ الظَّنِّ تَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ قِيَاسٍ وَعَارَضَ تِلْكَ الْأَقْيِسَةَ خَبَرٌ وَاحِدٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ رَاجِحًا كَمَا لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ وَاحِدًا.

وَلَوْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَثَرٌ فِي قُوَّةِ الظَّنِّ لَتَرَجَّحَتْ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَكَثِّرَةُ بِتَعَاضُدِهَا عَلَى الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ الشَّهَادَةِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً لَا يَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْحُكْمِ فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْحُجَّةِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ شَاهِدِ وَاحِد مِنْ جِنْسِ مَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ كَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَفِي السَّمَاءِ غَيْمٌ فَإِنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ وَالْآخَرُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ الْعَدْلَيْنِ لِظُهُورِ مَا يُؤَكِّدُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي شَهَادَتِهِمَا فَثَبَتَ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَزِيدُ قُوَّةً لِمَا جُعِلَ حُجَّةً وَيَصِيرُ وَصْفًا لَهُ.

قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا بِانْفِرَادِهِ قَالُوا إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ لِمَا قُلْنَا بَلْ يَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِيهِ يَتَأَكَّدُ مَا هُوَ الرُّكْنُ فِي الْقِيَاسِ وَلَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مَتَى شَهِدَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ صَارَتْ الْعِبْرَةُ لِلنَّصِّ وَسَقَطَ الْقِيَاسُ فِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ فِي الْمَنْصُوصِ نَفْسِهِ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ تَعْلِيلَ النَّصِّ بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى سَاقِطٌ؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ فَوْقَ الْقِيَاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فَبِالنَّصِّ أَوْلَى وَلَا نَصُّ الْكِتَابِ بِنَصٍّ آخَرَ يَعْنِي إذَا وَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدَهُمَا بِآيَةٍ أُخْرَى بَلْ تَتَرَجَّحُ بِقُوَّةٍ فِي النَّصِّ بِأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا أَوْ مُحْكَمًا وَاَلَّذِي يُعَارِضُهُ دُونَهُ بِأَنْ كَانَ مُجْمَلًا أَوْ مُؤَوَّلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.

حَتَّى صَارَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى مِنْ الْغَرِيبِ أَيْ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي دُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاشْتِهَارُ يُوجِبُ قُوَّةَ ثُبُوتٍ فِي النَّقْلِ الَّذِي بِهِ يُثْبِتُ الْخَبَرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَصِيرُ حُجَّةً وَيَصِيرُ وَصْفًا لِلْخَبَرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ وَمُتَوَاتِرٌ وَشَاذٌّ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِخَبَرٍ رَاوٍ وَاحِدٍ وَلِمُعَارِضِهِ رَاوِيَانِ أَوْ رُوَاةٌ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ فِي الِاشْتِهَارِ إلَّا كَثْرَةُ الرُّوَاةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الشَّيْخُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ إذَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ لَا يَحْدُثُ وَصْفٌ فِي الْخَبَرِ يَتَقَوَّى بِهِ بَلْ هُوَ فِي خَبَرِ الْآحَادِ كَمَا كَانَ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ فَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>