وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْهَا وَذَلِكَ خَطَأٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ نِصْفَيْنِ وَلَا بِتَرْجِيحِ صَاحِبِ الْجِرَاحَاتِ حَتَّى يُجْعَلَ وَحْدَهُ قَاتِلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ تَصْلُحُ عِلَّةً مُعَارِضَةً فَلَمْ تَصْلُحْ وَصْفًا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ
ــ
[كشف الأسرار]
حَدَثَ فِيهِ وَصْفٌ تَقَوَّى بِهِ حَيْثُ يُقَالُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ، وَمُتَوَاتِرٌ فَيُعْتَبَرُ هَذِهِ الْكَثْرَةُ فِي التَّرْجِيحِ دُونَ الْأُولَى.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّ أَحَدَ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَرَجَّحُ بِنَصٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ لِلنَّصِّ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَتَابِعًا لَهُ فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ بِالْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً يَعْنِي جِرَاحَةً يَقْصِدُ بِهَا الْقَتْلَ وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ كَذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى لَوْ خَدَشَ أَحَدُهُمَا وَجَرَحَ الْآخَرُ فَالضَّمَانُ إنْ كَانَ خَطَأً وَالْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا عَلَى الْجَارِحِ دُونَ الْخَادِشِ.
فَمَاتَ مِنْهَا أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ بِأَنْ مَاتَ، وَلَمْ تَنْدَمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا وَانْدَمَلَ ثُمَّ جَرَحَهُ الْآخَرُ أَوْ انْدَمَلَ جُرْحُ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا جَرَحَاهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ جُرْحِ الْآخَرِ كَانَ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ عَلَى مَنْ لَمْ يَنْدَمِلْ جُرْحُهُ دُونَ الْآخَرِ وَذَلِكَ خَطَأٌ إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا أَيْضًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْجِرَاحَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ يُسَاوِي صَاحِبَ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجِرَاحَاتِ مَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِهِ بِقِسْمَةِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ تِسْعَ جِرَاحَاتٍ فَلَوْ قِيلَ بِالتَّرْجِيحِ لَكَانَ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ عَلَى صَاحِبِ التِّسْعِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَمَّا سَقَطَ التَّرْجِيحُ كَانَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ مُمْكِنًا فِي الْخَطَأِ بِقِسْمَةِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَإِيجَابِ عُشْرِهَا عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهَا عَلَى الْآخَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ بَلْ اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْجَانِي لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ وَفِي الْعَمْدِ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْجِيحِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِنَايَاتِ بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْقِصَاصِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْخَطَأِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْجِيحِ الْمَصِيرُ إلَى عَدَدِ الْجَانِي لَا إلَى عَدَدِ الْجِنَايَاتِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى عَدَدِ الْجَانِي دُونَ عَدَدِ الْجِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ لَا يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَيُعْتَبَرُ الْجِرَاحَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْوَاحِدِ بِمَنْزِلَةِ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ كَانَ عَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْجَانِي لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ حَتَّى يُجْعَلَ وَحْدَهُ قَاتَلَا إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي جَعْلِهِ قَاتِلًا وَحْدَهُ، وَإِهْدَارِ جِنَايَةِ الْآخَرِ لَا فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ جِنَايَاتِهِ مَعَ اعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ يَعْنِي مِنْ جِرَاحَاتِ صَاحِبِ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ يَصْلُحُ مُعَارَضَةً لِجِرَاحَةِ صَاحِبِ الْوَاحِدَةِ فَلَمْ تَصْلُحْ وَصْفًا لِجِنَايَةٍ أُخْرَى فَلَا يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ جَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي جَزَّ رَقَبَتَهُ دُونَ الْآخَرِ صَاحَبَ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ النَّقْلِ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute