للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى عِلْمَ الشَّرِيعَةِ حِكْمَةً فَقَالَ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩] وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْحِكْمَةَ فِي الْقُرْآنِ بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَقَالَ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: ١٢٥] أَيْ بِالْفِقْهِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةُ: فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَكَذَلِكَ مَوْضِعُ اشْتِقَاقِ هَذَا الِاسْمِ وَهُوَ الْفِقْهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِصِفَةِ الْإِتْقَانِ مَعَ اتِّصَالِ الْعَمَلِ بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:

أَرْسَلْت فِيهَا قَرْمًا ذَا إقْحَامِ ... طِبًّا فَقِيهًا بِذَوَاتِ الْإِبْلَامِ

سَمَّاهُ فَقِيهًا لِعِلْمِهِ بِمَا يَصْلُحُ وَبِمَا لَا يَصْلُحُ وَالْعَمَلُ بِهِ فَمَنْ حَوَى هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَانَ فَقِيهًا مُطْلَقًا وَإِلَّا فَهُوَ فَقِيهٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: ١٢٢]

ــ

[كشف الأسرار]

مُسْتَقِيمًا ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا ادَّعَى فَقَالَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ حِكْمَةً وَالْحِكْمَةُ لُغَةً اسْمٌ لِلْعِلْمِ الْمُتْقَنِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّهُ السَّفَهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ وَضِدُّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا وَعَنْ الْقَبَائِحِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَكَمَةِ الْفَرَسِ، وَهِيَ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ الْحِدَّةِ وَالْجَمُوحَةِ وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ وَالْحَكِيمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ الْعَامِلُ وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي كُنْهُهَا مَا يَرُدُّ الْعَقْلَ مِنْ الْخَوْضِ فِي مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ إلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَبَانِي الْعُبُودِيَّةِ فَلَأَنْ يَعُودَ الْعَقْلُ مُعْتَرِفًا بِقُصُورِهِ أَحْمَدُ لَهُ مِنْ أَنْ يُتَّهَمَ بِإِرْبِهِ فِي أُمُورِهِ وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى {خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩] تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ كَأَنَّهُ قَالَ فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَعِظُهُ أَنَّك تُنَاصِحُهُ بِهَا وَتَقْصِدُ نَفْعَهُ فِيهَا وَوَصَفَ الْمَوْعِظَةَ بِالْحُسْنِ دُونَ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ رُبَّمَا آلَتْ إلَى الْقُبْحِ بِأَنْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَوَقْتِهَا.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ» فَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَحَسَنَةٌ أَيْنَمَا وُجِدَتْ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَوْلِ الصَّوَابِ وَالْفِعْلِ الصَّوَابِ.

قَوْلُهُ (قَالَ الشَّاعِرُ) ، وَهُوَ رُؤْبَةُ أَرْسَلْت فِيهَا أَيْ فِي النُّوقِ وَكَلِمَةُ فِي لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْإِرْسَالِ وَمَحَلُّهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} [الصافات: ٧٢] لَا لِتَعْدِيَةِ الْإِرْسَالِ إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَيْهِ بِإِلَى، وَالْقَرْمُ الْبَعِيرُ الْمُكَرَّمُ الَّذِي لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُذَلَّلُ وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفَحْلَةِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ قَرْمٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ، وَالْإِقْحَامُ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي الشِّدَّةِ وَفِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الْإِقْحَام در آوردن جيزي در جيزي بِعُنْفٍ وَالطِّبُّ هُوَ الْمَاهِرُ بِالضِّرَابِ وَالْأَبْلَامِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ بَلَمَةٍ يُقَالُ نَاقَةٌ بِهَا بَلَمَةٌ شَدِيدَةٌ إذَا اشْتَدَّتْ ضَبْعَتُهَا أَيْ رَغْبَتُهَا إلَى الْفَحْلِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَبْلَمَتْ النَّاقَةُ إذَا وَرِمَ حَيَاؤُهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّبَعَةِ وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِالْبَيْتِ هُوَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ فِيهِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْفَقِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْفِقْهَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ، فَمَنْ حَوَى أَيْ جَمَعَ.

هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَيْ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ، كَانَ فَقِيهًا مُطْلَقًا أَيْ كَامِلًا تَامًّا، وَإِلَّا أَيْ، وَإِنْ يَجْمَعُهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى وَجْهٍ أَوْ وَجْهَيْنِ، فَهُوَ فَقِيهٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِوُجُودِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْحَقِيقَةِ دُونَ الْبَعْضِ وَيُسَمِّي الشَّيْخُ هَذَا النَّوْعَ حَقِيقَةً قَاصِرَةً قَوْلُهُ (وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ) أَيْ دَعَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فِي بَيَانِ فَضِيلَةِ الْفِقْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِفَضَائِلِ الْفِقْهِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ آيَةٍ وَحَدِيثٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْفَضَائِلَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ النُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ الْوَارِدَةِ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: ١٧٦] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: ٥] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَلِلْعَالِمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ شِرَارِ الْخَلْقِ فَقَالَ اللَّهُمَّ غُفْرًا حَتَّى كُرِّرَ عَلَيْهِ فَقَالَ هُمْ الْعُلَمَاءُ السُّوءُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَثَبَتَ أَنَّ مُطْلَقَهُ وَاقِعٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» وَرَدَ فِيمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>