وَصَفَهُمْ بِالْإِنْذَارِ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» وَقَالَ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
ــ
[كشف الأسرار]
الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فَهُوَ سُخْرَةُ الشَّيْطَانِ وَضَحِكَتُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُهُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ أَسَامِي الْعُلُومِ أَنَّ النَّاسَ تَصَرَّفُوا فِي اسْمِ الْفِقْهِ فَخَصُّوهُ بِعِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِهَا وَعِلَلِهَا وَاسْمُ الْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَانَ مُنْطَلِقًا عَلَى عِلْمِ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْآخِرَةِ وَحَقَارَةِ الدُّنْيَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: ١٢٢] وَالْإِنْذَارُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ دُونَ تَفَارِيعِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَفْقَهُ الْعَبْدُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ» وَرُوِيَ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا وَسَأَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيُّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك فَقَالَ الْحَسَنُ ثَكِلَتْك أُمُّك فُرَيْقِدُ وَهَلْ رَأَيْت فَقِيهًا بِعَيْنِك إنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ الْبَصِيرُ بِذَنْبِهِ الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ الْوَرِعُ الْكَافُّ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ اسْمُ الْفِقْهِ مُتَنَاوِلًا لِهَذِهِ الْعُلُومِ وَلِلْفَتَاوَى أَيْضًا فَخُصَّ بِالْفَتَاوَى لَا غَيْرُ فَتَجَرَّدَ النَّاسُ بِهِ لِأَغْرَاضِ الْجَاهِ وَالِاسْتِتْبَاعِ اسْتِرْوَاحًا بِمَا جَاءَ فِي فَضِيلَةِ الْفِقْهِ قَوْله تَعَالَى.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: ١٢٢] اللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَفِيرَ الْكَافَّةِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا مُمْكِنٌ وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ وَأَمْكَنَ وَلَمْ يُؤَدِّ إلَى مَفْسَدَةٍ لَوَجَبَ لِوُجُوبِ التَّفَقُّهِ عَلَى الْكَافَّةِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ فَلَوْلَا نَفَرَ أَيْ فَحِينَ لَمْ يُمْكِنْ نَفِيرُ الْكَافَّةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ أَيْ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ جَمَاعَةٌ قَلِيلَةٌ يَكْفُونَهُمْ النَّفِيرَ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ لِيَتَكَلَّفُوا الْفَقَاهَةَ فِيهِ وَيَتَجَشَّمُوا الْمَشَاقَّ فِي أَخْذِهَا وَتَحْصِيلِهَا وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ فِي التَّفَقُّهِ إنْذَارَ قَوْمِهِمْ وَإِرْشَادَهُمْ وَالنَّصِيحَةَ لَهُمْ لَا مَا يَنْتَحِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ وَتَؤُمُّونَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الرَّكِيكَةِ مِنْ التَّصَدُّرِ وَالتَّرَؤُّسِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الْبِلَادِ وَالتَّشَبُّهِ بِالظَّلَمَةِ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَمُنَافِسَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَفُشُوِّ دَاءِ الضَّرَائِرِ بَيْنَهُمْ وَانْقِلَابِ حَمَالِقَ أَحَدِهِمْ إذَا لَمَحَ بِبَصَرِهِ مَدْرَسَةً لِآخَرَ أَوْ شِرْذِمَةً جَثَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَهَالُكَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَوْطِئَ الْعَقِبِ دُونَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَمَا أَبْعَدَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: ٨٣] لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرَادَةَ أَنْ يَحْذَرُوا اللَّهَ فَيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ بَعْثًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَعْدَمَا أُنْزِلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مِنْ الْآيَاتِ الشِّدَادِ اسْتَبَقَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ آخِرِهِمْ إلَى النَّفِيرِ وَانْقَطَعُوا جَمِيعًا عَنْ اسْتِمَاعِ الْوَحْيِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْفِرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى الْجِهَادِ وَيَبْقَى أَعْقَابُهُمْ يَتَفَقَّهُونَ حَتَّى لَا يَنْقَطِعُوا عَنْ التَّفَقُّهِ الَّذِي هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ لِأَنَّ الْجِدَالَ بِالْحُجَّةِ أَعْظَمُ أَثَرًا مِنْ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَقَوْلُهُ لِيَتَفَقَّهُوا الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ الطَّوَائِفِ النَّافِرَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وَلِيُنْذِرَ الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ قَوْمَهُمْ النَّافِرِينَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ بِمَا حَصَّلُوا فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ وَعَلَى الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ لِلطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute