عَلَى مُضَادَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ الرُّجْحَانُ فِي الذَّاتِ أَحَقَّ مِنْهُ فِي الْحَالِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ مِنْ الْحَالِ فَيَصِيرُ كَاجْتِهَادٍ أُمْضِيَ حُكْمُهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا عَلَى مُضَادَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ مُبْطِلًا لَهُ، وَالتَّبَعُ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِلْأَصْلِ نَاسِخًا لَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي مَزَلِّ الْقَدَمِ، وَالْمُصِيبُ فِي مَرَاكِزِ الزَّلَلِ مَأْجُورٌ.
وَبَيَانُهُ فِيمَا هُوَ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ قَوْلُنَا فِي ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ هَذَا رَاجِحٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْعَمُّ رَاجِحٌ بِخَالَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ مَعَ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ بِالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهَا رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْخَالُ رَاجِحٌ بِخَالَةٍ وَابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الذَّاتِ فَيَتَرَجَّحُ بِالْخَالِ وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِلرُّجْحَانِ فِي الذَّاتِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالثَّانِي فِي الْحَالِ أَيْ بِوَصْفٍ فِي الذَّاتِ عَلَى مُضَادَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ ثَانِيًا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ وُجُودًا مِنْ الْحَالِ زَمَانًا أَوْ رُتْبَةً فَبَعْدَمَا وَقَعَ التَّرْجِيحُ لِمَعْنًى فِي الذَّاتِ لَا يَتَغَيَّرُ لِمَا حَدَثَ مِنْ مَعْنًى فِي حَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاجْتِهَادٍ أَمْضَى حُكْمَهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ اجْتِهَادٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ بِالنَّسَبِ أَوْ النِّكَاحِ لِرَجُلٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لِآخَرَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَلَا يُقَالُ الذَّاتُ أَسْبَقُ عَلَى حَالِ نَفْسِهَا لَا عَلَى حَالِ ذَاتٍ أُخْرَى وَتَرْجِيحُ الْخَصْمِ يَقَعُ بِحَالِ ذَاتٍ أُخْرَى فَيَتَسَاوَيَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَنْظُورُ كَوْنُ الذَّاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْحَالِ وَبِالذَّاتِ قَدْ يَقَعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيضِ رَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى ذَاتِ الصَّوْمِ، وَرَجَّحَ الْخَصْمُ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الصَّوْمِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ.
بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْ الْحَالُ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا، وَمَا هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَدَمِ قِيَامِهِ وَبَقَائِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَتْ الْحَالُ مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا وَالذَّاتُ مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِهَا أَوْلَى وَبَعْدَمَا صَارَ الدَّلِيلُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ لَا يُجْعَلُ الْآخَرُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا، وَإِبْطَالًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، وَالتَّبَعُ لِغَيْرِهِ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ وَنَاسِخًا لَهُ وَقَدْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ تَبَعَ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِذَاتِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِشَيْءٍ آخَرَ.
وَالْجَوَابُ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّرْجِيحِ مَذْهَبُنَا، وَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَلَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي مَزَلِّ الْقَدَمِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ فِي مَوْضِعِ الْخَفَاءِ كَانَ مَعْذُورًا، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي مَوْضِعِ الظُّهُورِ، وَالْمُصِيبُ فِي مَرَاكِزِ الزَّلَلِ مَأْجُورٌ يَعْنِي، وَمَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ تَزِلُّ فِيهَا أَقْدَامُ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمْ أَمْعَنُوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَأَصَابُوا حَقِيقَةَ الْمَعْنَى فَلَمْ تَزِلَّ أَقْدَامُهُمْ عَنْ الصَّوَابِ.
وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ رُجْحَانِ التَّرْجِيحِ بِالذَّاتِ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ ابْنَ ابْنِ الْأَخِ رَاجِحٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ قَرَابَتَهُ قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مُجَاوِرُهُ فِي الصُّلْبِ وَالْعَمُّ مُجَاوِرُ أَبِيهِ، وَالْعَمُّ رَاجِحٌ بِحَالَةٍ، وَهِيَ زِيَادَةُ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأَبُ وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ بِوَاسِطَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ مَعَ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَالِ، وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ لِإِدْلَائِهَا إلَى الْمَيِّتِ بِالْأَبِ وَالْخَالُ رَاجِحٌ بِحَالَةٍ، وَهِيَ الذُّكُورَةُ، وَقُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهُ يَتَّصِلُ بِأُمِّ الْمَيِّتِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْعَمَّةُ مُتَّصِلَةٌ بِأَبِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الذَّاتِ أَيْ ذَاتِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الْكُلَّ قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ فَيَتَرَجَّحُ أَيْ الْأَوَّلُ بِالْحَالِ، وَهِيَ زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ لِأَحَدِهِمَا.
وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِلرُّجْحَانِ فِي الذَّاتِ يَعْنِي أَنَّهُمَا، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ مَنْزِلَهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ مَعْنًى مُرَجِّحٌ فِي ذَاتِهِ، وَهُوَ الْقُرْبُ فَإِنَّ نَفْسَهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَلِلْآخَرِ