للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ فِي الْخِيَاطَةِ وَالصِّيَاغَةِ وَالطَّبْخِ وَالشَّيِّ وَنَحْوِهَا إنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يُضَافُ حُدُوثُهَا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَهَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ مُضَافٌ إلَى صَنْعَةِ الْغَاصِبِ فَصَارَتْ الصَّنْعَةُ رَاجِحَةً فِي الْوُجُودِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ الْأَصْلِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بَاقِيَةٌ بِالْمَصْنُوعِ تَابِعَةٌ لَهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ حَالٌّ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِذَا تَعَارَضَا كَانَ الْوُجُودُ أَحَقَّ مِنْ الْبَقَاءِ

ــ

[كشف الأسرار]

مَعْنًى مُرَجِّحٌ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ لِجَدِّهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِالْعُصُوبَةِ.

وَمِثْلُهُ أَيْ، وَمِثْلُ التَّرْجِيحِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَرَائِضِ كَثِيرٌ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِمَا قُلْنَا وَالْجَدُّ، وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ وَبِنْتُ الْعَمَّةِ، وَإِنْ سَلَفَتْ أَوْلَى بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَالِ وَالْخَالَةِ لِلرُّجْحَانِ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّةِ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الذَّاتِ لِلرُّجْحَانِ فِي الْحَالِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا.

قَوْلُهُ: (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالذَّاتِ أَقْوَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ عِنْدَ تَعَارُضِ التَّرْجِيحَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ بِأَنْ أَحْدَثَ فِي الْمَغْصُوبِ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً، وَهِيَ مَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِهِ فِي الْخِيَاطَةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ مَعَ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ أَيْ بِأَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ وَالصِّيَاغَةِ بِأَنْ غَصَبَ نُقْرَةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا أَوْ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ وَالطَّبْخِ، وَالشَّيِّ بِأَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَطَبَخَهُ أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا وَنَحْوِهَا بِأَنْ غَصَبَ سَاجَةً أَوْ أَجُرَّةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ يَعْنِي مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ لَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ أَصْلًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَلَا يَنْقَطِعُ بِالصِّيَاغَةِ حَقُّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ لِمَا سَنُبَيِّنُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْحَادِثَ فِي الْمَغْصُوبِ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ حَقُّ الْغَاصِبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يَأْخُذُ الْعَيْنَ إلَّا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَتْ الصَّنْعَةُ فِيهَا مِنْ الْخِيَاطَةِ وَالشَّيِّ، وَالْأَصْلُ مُتَقَوِّمٌ حَقًّا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّيِّ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِهِمَا أَصْلًا، وَفِي الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا إلَّا بِنَقْضِهَا، وَالنَّقْضُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْغَاصِبِ وَحَقُّهُ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ الْإِبْطَالُ عَلَيْهِ كَحَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِاخْتِلَافِ الْمِلْكَيْنِ جِنْسًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ بِالْقِيمَةِ.

فَقُلْنَا: حَقُّ الْغَاصِبِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا لَا الْقِيَامُ بِالذَّاتِ الَّذِي يَكُونُ لِلْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنْعَةِ أَثَرُهَا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقِيَامِ بِمَحَلٍّ، وَلَا يُضَافُ حُدُوثُهَا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الثَّوْبِ شَيْئًا، وَالثَّوْبُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ أَيْضًا لِصَيْرُورَتِهِ مَخِيطًا فَثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ لَا غَيْرُ، وَكَأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الزَّوَائِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا حَقُّ الْمَالِكِ لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ، وَعَمَّا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ بِحِنْطَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطَحَنَتْهَا أَوْ أَلْقَتْهَا فِي أَرْضِ الْغَاصِبِ فَنَبَتَتْ حَيْثُ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهَا دَقِيقًا وَزَرْعًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ أَحَدٍ، وَفِعْلُ الطَّاحُونَةِ وَالرِّيحِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ بَقِيَتْ مُضَافَةً إلَى الْحِنْطَةِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ.

وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الْمَغْصُوبِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثَّوْبِ، وَلَمْ يَبْقَ صُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَوْبًا بِالتَّرْكِيبِ، وَقَدْ زَالَ بِالْقَطْعِ مِنْ وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْمَنَافِعِ الْقَائِمَةِ بِهِ زَالَتْ بِالْقَطْعِ وَحَدَثَ بِالْخِيَاطَةِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا حَدَثَ بِفِعْلِ الشَّيِّ صِفَةُ النُّضْجِ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي قِيمَةِ اللَّحْمِ وَاللَّحْمُ يَصِيرُ بِهَا مُسْتَهْلَكًا صُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ وَجْهٍ.

أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ كَانَ صَالِحًا لِوُجُودِهِ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْآنَ لَمْ يَصْلُحْ إلَّا لِمَا آلَ إلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>