للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا قُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَكُلِّ صَوْمِ عَيْنٍ إنَّهُ يَجُوزُ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِالْعَزِيمَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَعَارَضَا فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ تَرَجَّحَ الْفَسَادُ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الذَّاتِ بِالْحَالِ.

وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَمَّ حَوْلُ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَضُمَّهَا إلَى الْأَلْفِ الَّتِي عِنْدَهُ لَكِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فَإِنْ وُهِبَتْ لَهُ أَلْفٌ أُخْرَى ضَمَّهَا إلَى الْأَلْفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ثَمَنِ الْإِبِلِ فَرَبِحَ أَلْفًا ضَمَّ الرِّبْحَ إلَى أَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعُدَ عَنْ الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ الرُّجْحَانُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْأَلْفَ الرِّبْحَ مُتَّصِلٌ بِأَصْلِهِ ذَاتًا مُتَّصِلٌ بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى حَالًا، وَهِيَ الْقُرْبُ إلَى مُضِيِّ الْحَوْلِ، وَالذَّاتُ أَحَقُّ مِنْ الْحَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً مَعْدُودَةً لِتَكُونَ أَصْلًا لِغَيْرِهَا مِنْ الْفَرْعِ.

ــ

[كشف الأسرار]

وَكَذَا الطَّبْخُ بِالْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَيْنَ هَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَالِكِ حَقُّ التَّرْكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَتَضْمِينُ كُلِّ الْقِيمَةِ، وَهِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ هَالِكَةً تُضَافُ إلَى صَنْعَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَتَى أَوْجَبَتْ تَبْدِيلَ الْمَحَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ يَصِيرُ وُجُودُهُ مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا فَنَبَتَتْ أَوْ طَحَنَهَا أَوْ بَيْضًا فَحَضَنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ حَتَّى أَفْرَخَتْ أَوْ تَالَّةً فَأَنْبَتَهَا حَتَّى غُرِسَتْ فَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَصِيرُ الْوُجُودُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوْبَ تَبَدَّلَ مِنْ وَجْهٍ صُورَةً وَمَعْنًى، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ وُجُودًا، وَالصَّنْعَةُ وُجِدَتْ بِفِعْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوُجُودِ بِالثَّوْبِ، وَالْوُجُودُ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ فَرَجَّحْنَا الصَّنْعَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا فِي الْوُجُودِ رَاجِحَةٌ لِكَوْنِهَا مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ وُجُودَ الثَّوْبِ مِنْ وَجْهٍ مُضَافٌ إلَيْهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أَوْ قَطَعَهُ قَبَاءً وَلَمْ يُخْطِهِ أَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَسَلَخَهَا، وَأَرَّبَهَا، وَلَمْ يَشْوِهَا حَيْثُ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقُّ الْمَالِكِ مَعَ وُجُودِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ وَتَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ بِهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنْ كَانَ حَقُّ الْغَاصِبِ فِي صُورَةِ الصُّنْعِ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الِاسْمُ وَالْهَيْئَةُ، وَلَا الْمَعَانِي فَإِنَّ الثَّوْبَ الْأَحْمَرَ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَبْيَضُ إلَّا أَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ إلَّا بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَأَمَّا صَلَاحِيَّتُهُ لِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ فَعَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَرَجَّحَ الْأَصْلُ عَلَى الْوَصْفِ، وَفِي قَطْعِ الثَّوْبِ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِدُونِ الْخِيَاطَةِ وَالشَّيِّ وُجِدَ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْهُ فِعْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ فَيُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ فَيَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ.

وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَسْأَلَةُ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا حَقُّ مَالِكٍ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْغَاصِبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ هُنَاكَ قَائِمَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ إذْ هِيَ قَائِمَةٌ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَصَارَتْ الصَّنْعَةُ وَالْأَصْلُ سَوَاءٌ فَتَرَجَّحَ الْأَصْلُ عَلَى الْوَصْفِ بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ أَوْ الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالَ الرِّبَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ بَعْدَ الصَّنْعَةِ عَدَدًا لَا وَزْنًا فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهِ مُتَقَوِّمَةً فَافْتَرَقَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ الْأَصْلِ رَاجِحٌ عَلَى صَاحِبِ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بَاقِيَةٌ بِالْمَصْنُوعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا لِكَوْنِهَا عَرْضًا تَابِعَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ أَتْبَاعٌ لِمَوْصُوفَاتِهَا.

وَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ حَالٌ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِذَا تَعَارَضَا أَيْ التَّرْجِيحُ بِالْوُجُودِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحَالِ كَانَ الْوُجُودُ أَحَقَّ مِنْ الْبَقَاءِ ثُمَّ كَوْنُ الشَّيْءِ تَابِعًا وَوَصْفًا لِغَيْرِهِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ فِي التَّبَعِ مُحْتَرَمٌ كَمَا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ مُحْتَرَمٌ فَأَمَّا هَلَاكُ الشَّيْءِ فَمُبْطِلٌ لِلْحَقِّ فَمَتَى كَانَ الشَّيْءُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَلَا يُعَارِضُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا أَوْ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا حَقَّ الْغَاصِبِ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ، وَكَمَا قُلْنَا فِي صَنْعَةِ الْغَاصِبِ قُلْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي كَذَا فَإِذَا وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَعَارَضَا أَيْ الْبَعْضُ الَّذِي وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ وَالْبَعْضُ الَّذِي لَمْ تُوجَدْ فِيهِ أَوْ تَعَارَضَ وُجُودُ الْعَزِيمَةِ فِي الْبَعْضِ وَعَدَمُهَا فِي الْبَعْضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>