للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الْجُنُونِ لَمَّا نَافَى تَكْلِيفَ الْأَدَاءِ نَافَى تَكْلِيفَ الْقَضَاءِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَالْأَدَاءُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ كَمَا قِيلَ فِي النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِاحْتِمَالِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا اسْتَغْرَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ هَذَا فَاسِدٌ أَيْضًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ فِي حُقُوقِ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْحَيْضِ أَسْقَطَ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالسَّفَرُ أَثَّرَ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْفَجْرِ وَكَالْحَيْضِ إذَا تَخَلَّلَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الِاسْتِقْبَالَ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً.

ــ

[كشف الأسرار]

وَذَاتُهُ إلَّا أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي عِلَّةِ الرِّبَا الْفَتْحُ وَمُرَادُهُمْ كَوْنُ الشَّيْءِ مَطْعُومًا أَوْ مِمَّا يُطْعَمُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

١ -

قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الْجُنُونِ) الْجُنُونُ يُنَافِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالِاتِّفَاقِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِتَرْكِ الْأَدَاءِ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ وَيُنَافِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَثُرَ بِأَنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ أَوْ اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا إذَا أَفَاقَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُنَافِي تَكْلِيفَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ سَاقِطٌ عَنْ الْمَجْنُونِ أَصْلًا فَيُنَافِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ أَيْ اعْتِبَارُهُمْ انْتِفَاءَ الْقَضَاءِ بِانْتِفَاءِ الْأَدَاءِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ أَيْ نَفْسَ الْوُجُوبِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ أَيْ الْمَشْرُوعَاتِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ وَالْأَدَاءُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ يَعْنِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ يُمْكِنُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهِيَ حَالَةُ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقُدْرَةِ بِخِلَافِ نَفْسِ الْوُجُوبِ كَمَا قِيلَ فِي النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُمَا إلَى حَالَتَيْ الِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ.

وَالْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْأَدَاءِ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَيْ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدَاءِ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنْ يَثْبُتَ وُجُودُ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ فَوَاتِهِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْأَدَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ بِطَرِيقِ الِاحْتِمَالِ فَيَكْفِي ذَلِكَ وُجُوبُ الْخَلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَحَقُّقَ السَّبَبِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْجُنُونِ لَا تَزُولُ الْأَهْلِيَّةُ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ تَبْتَنِي عَلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَأَهْلِيَّةُ الثَّوَابِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا وَبِالْجُنُونِ لَا يَبْطُلُ الْإِيمَانُ وَلِهَذَا يَرِثُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَجْنُونَةِ وَزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ بَقِيَ صَائِمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ سَاقِطًا عَنْهُ لِعَجْزِهِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ كَمَا فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَاحْتِمَالُ الْأَدَاءِ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا بِزَوَالِ الْجُنُونِ سَاعَةً فَسَاعَةً كَمَا فِي النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَيَكْفِي ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُنَافَاةِ الْجُنُونِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ مُنَافَاتُهُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفَاقَةِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَهِيَ أَنَّ الْوُجُوبَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَصْلٌ وَأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي أَصْلَ الْوُجُوبِ وَأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْوُجُوبِ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدَاءِ لَا حَقِيقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَكَانَ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ.

وَأَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ أَثَرَ الْجُنُونِ فِي تَأْخِيرِ لُزُومِ الْفِعْلِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ دُونَ أَصْلِ الْإِيجَابِ كَالنَّوْمِ فَجُعِلَ مَا يَسْقُطُ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ أَصْلِ الْإِيجَابِ حُكِمَ بِخِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ فَاسِدًا وَأَرَادَ بِالنَّصِّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثُ وَبِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى النَّائِمِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمْ فِيهَا أَيْضًا مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَوْ عَلَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>