لِمَا عُرِفَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرْعِ وَالْبَيَّاعَاتُ تُخَالِفُ التَّبَرُّعَاتِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ هَذِهِ لِلْإِيثَارِ بِالْأَعْيَانِ وَهَذِهِ لِالْتِزَامِ الدُّيُونِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: ٢٨٢] أَيْ تَبَايَعْتُمْ بِنَسِيئَةٍ.
ــ
[كشف الأسرار]
وُجُودَهُ وَوُجُوبَهُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَجِبُ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صَارَ مَوْجُودًا بِالْعَقْدِ وَمَمْلُوكًا بِهِ وَهَذَا حُكْمٌ أَصْلِيٌّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ لَا يَتَغَيَّرُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا فِي السَّلَمِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعَيُّنِ وَبِدَلِيلِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي مَوْجُودٍ وَكَانَ ثُبُوتُهُ دَيْنًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَبَقِيَ مُلْحَقًا بِالْأَعْيَانِ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي السَّلَمِ وَلَمَّا ثَبَتَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ كَانَ التَّعْلِيلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِجَعْلِ مَا هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّمَنِ مَوْجُودًا بِهِ شَرْطٌ لَهُ.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِمَا عُرِفَ أَيْ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ هَذَا إذَا اعْتَبَرُوا النُّقُودَ بِالسِّلَعِ فَإِنْ اعْتَبَرُوهَا بِالتَّبَرُّعَاتِ مَشْرُوعَةً لِلْإِيثَارِ بِالْعَيْنِ لَا لِإِيجَابِ شَيْءٍ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ فِيهَا تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ وَالْمُعَاوَضَاتِ لِإِيجَابِ بَدَلٍ بِهَا فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَقْدُهَا بِلَا إشَارَةٍ إلَى الْأَثْمَانِ بَلْ تَسْمِيَةٌ مُطْلَقَةٌ وَأَنَّهَا تُوجَبُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْعَيْنِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فِي صِحَّةِ التَّعْيِينِ فَاسِدًا وَضْعًا لِعَدَمِ مُصَادَفَةِ التَّعْيِينِ مَحَلَّهُ وَمَا كَانَ تَعْيِينُ النَّقْدِ فِي الْمُعَاوَضَةِ إلَّا نَظِيرَ الْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً بِعَقْدِ الْهِبَةِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ نَقْلُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْعَيْنِ فَبِدُونِ مُوجِبِهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَذَا التَّعْيِينُ هَاهُنَا يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَا هُوَ مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَفْلَسَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ بِقَبْضِ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ السِّلْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ يُثْبِتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ أَحَدُ عِوَضَيْ الْعَقْدِ فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْبَائِعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَالْعِوَضِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَبِيعُ إذَا كَانَ عَيْنًا فَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِالْإِبَاقِ وَنَحْوِهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا كَالسَّلَمِ فَعَجَزَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ وَضْعًا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ فِي الْمَبِيعِ اسْتِحْقَاقُ مِلْكِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي الْمَبِيعِ الدَّيْنُ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حُكْمًا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ الَّذِي هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِاكْتِسَابِهِ أَوْ إدْرَاكِ غَلَّاتِهِ وَبِاشْتِرَاطِ عَدَمِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ أَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْعَقْدِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُدْرَةَ عَلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَبَدًا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْأَصْلِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ لَا تَقْبَلُ التَّسْلِيمَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ وَبِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَا يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ وَلِهَذَا جَازَ إسْقَاطُ حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِبْرَاءِ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى إذَا وَهَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فَإِثْبَاتُ حَقِّ الْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ تَمَكُّنِ خَلَلٍ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا بِثُبُوتِهِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute