وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِتَصِيرَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ لِتَصِيرَ قُرْبَةً شَرْطٌ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا قُرْبَةٌ بَلْ شُرِعَ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ وَبِوَصْفِ التَّطْهِيرِ أَيْضًا كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَالصَّلَاةُ تَسْتَغْنِي فِي ذَلِكَ عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى وَصْفِ التَّطْهِيرِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِلنَّفْلِ صَلَّى بِهِ الْفَرَائِضَ وَمَنْ تَوَضَّأَ لِلْفَرْضِ صَلَّى بِهِ غَيْرَهُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْبَكَارَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيَضْطَرُّهُ إلَى الْفِقْهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَكَانَ حُجَّةً فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَمَا يُبْتَذَلُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَيَظْهَرُ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَرُورِيَّةٌ بَلْ هِيَ أَصْلِيَّةٌ إلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبَ شُبْهَةٍ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَلِأَنَّهَا لَا نِهَايَةَ فِي الْعِبَادَاتِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قُرْبَةٍ أُخْرَى لِيَصِيرَ عِبَادَةً كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِيهِ أَيْ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْطِهَا إلَى وَصْفِ التَّطْهِيرِ لِيَصِيرَ الْعَبْدُ بِهِ أَهْلًا لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْمُنَاجَاةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: ٦] .
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ» وَكَذَا فِي تَسْمِيَتِهِ وُضُوءًا وَطَهَارَةً دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهَذَا الْوَصْفُ يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِكَذَا صَلَّى بِهِ غَيْرَهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ إذْ لَوْ احْتَاجَتْ الصَّلَاةُ إلَى وَصْفِ الْقُرْبَةِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقُرْبَةِ قَدْ انْتَهَى بِفَرَاغِهِ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي حَالَةِ الْوُضُوءِ وَإِنَّمَا النَّافِي وَصْفُ الطَّهَارَةِ لَا غَيْرُ وَلَمَّا جَازَتْ بِالْإِجْمَاعِ عَرَفْنَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفِ التَّطْهِيرِ لَا بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْوُضُوءِ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِبَادَةٌ وَالْوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَةَ مَتَى لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً سَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّمَكُّنُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا طَهُرَتْ الْأَعْضَاءُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَأَنْ سَقَطَ الْأَمْرُ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِسَعْيٍ لَا لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْجُمُعَةِ بِالْحُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ سَقَطَ الْأَمْرُ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِالْحُدُودِ.
وَهُوَ أَيْ هَذَا التَّعْلِيلُ بَعْدَ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا بِالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ أَيْ مُنْتَقِضٌ بِالْبَكَارَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي فِي مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُنَّ فِيهَا مَقْبُولَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَيُضْطَرُّ وُرُودُ هَذَا النَّقْضِ الْمُعَلَّلِ الطَّارِدِ إلَى الْفِقْهِ أَيْ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ الَّذِي بَنَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَةً أَوْ مُنْضَمَّةً إلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ الْأَمْرَ إلَى النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: ٢٨٢] كَمَا نَقَلَ أَمْرَ الطَّهَارَةِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ وَإِنَّمَا صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ وَكَذَا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَقِلَّةُ ضَبْطِهِنَّ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَاخْتِلَالُ وِلَايَتِهِنَّ فِي الْإِمَارَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُخِلَّةٌ بِمَا هُوَ الرُّكْنُ فِي الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمَ الْقَبُولِ فَكَانَتْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهَا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ مِثْلَ الْبَكَارَةِ وَمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَمُنْضَمَّةً إلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يُبْتَذَلُ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ أَمْوَالٌ؛ لِأَنَّهَا لِلْبِذْلَةِ وَالتِّجَارَةُ دَائِمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَأَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِي بَابِهَا وَكَذَا الْمُبَايَعَاتُ تَقَعُ بَغْتَةً وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ إحْضَارُ الذُّكُورِ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُنَّ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَضَاقَ الْأَمْرُ فَقُبِلَتْ تَوْسِعَةً وَدَفْعًا لِلضَّرُورَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ كَوْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَالًا أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مُقَامَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ عِنْدَ الْعَدَمِ فَقُبِلَتْ وَإِنْ فُقِدَتْ الْحَاجَةُ بِوُجُودِ الرِّجَالِ تَوْسِعَةً كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ.
بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْأَبْضَاعِ وَلَمْ يَجُزْ الِابْتِذَالُ وَالْإِبَاحَةُ فِيهَا فَكَانَتْ أَعْظَمَ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ النِّكَاحُ بِشَرْطِ الشَّهَادَةِ وَالْوَلِيِّ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الضَّرُورَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَغْتَةً وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ تَدَبُّرٍ وَتَشَاوُرٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَاعْتِبَارُ شَهَادَتِهِنَّ فِيمَا فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute