وَمَسْحُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِهِ إلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنْ الْحَرَجِ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ.
ــ
[كشف الأسرار]
فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ النِّيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ الشَّرْطُ عِنْدَ الْخَصْمِ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ لَا إثْبَاتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْمَاءِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ هُوَ عَامِلٌ بِطَبْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ فَكَانَ أَيْ غَسْلُ هَذَا الْمَحَلِّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ الْحَدَثُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مِثْلَ غَسْلِ النَّجَسِ فِي عَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ.
بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ مُلَوَّثٌ بِطَبْعِهِ فَكَانَ إثْبَاتُ التَّطْهِيرِ بِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ لِيَظْهَرَ فِعْلُهُ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ وَيَصِيرَ مُطَهَّرًا أَوْ بَعْدَمَا صَارَ مُطَهَّرًا بِالنِّيَّةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ اسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ كَمَا اسْتَغْنَى الْمَاءُ عَنْهَا وَتَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا الْمُفَارَقَةُ فِي صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ لِلْآلَةِ وَأَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَصْمِ فِي مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ لَنَا قَوْلُهُ (وَمَسْحُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ فِي الْوُضُوءِ مُطَهِّرًا أَوْ هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِي التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي تَكْثِيرِ النَّجَاسَةِ لَا فِي إزَالَتِهَا فَكَانَ مِثْلَ التُّرَابِ فِي أَنَّهُ مُلَوِّثٌ لَا مُطَهِّرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَطَ فِيهِ النِّيَّةُ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالَ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْغُسْلُ لِسِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَيْهِ كَسِرَايَتِهِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ مِنْ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ بِسَبَبِ ضَرْبٍ مِنْ الْحَرَجِ فَإِنَّ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ خُصُوصًا فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ لِمَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ كَثِيرٌ حَرَجًا عَظِيمًا وَفِيهِ إفْسَادُ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ وَالْقَلَانِسِ فَشُرِعَ فِيهِ الْمَسْحُ ابْتِدَاءً تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا وَلَمَّا قَامَ الْمَسْحُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَقَامَ الْغَسْلِ أَخَذَ حُكْمَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ كَالْغَسْلِ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ غُسْلٌ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ فِيهِ بِالْكُلِّ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِفِعْلِنَا إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ سَيَّالًا ضَعُفَ عَنْ التَّطْهِيرِ لِلنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَهَا بِإِزَالَةِ عَيْنِهَا وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النَّجَاسَةُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهَا حُكْمِيَّةٌ دُونَ الْعَيْنِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْإِزَالَةِ لِإِفَادَةِ الطُّهْرِ فَصَارَ الْبَلَلُ كَالسَّائِلِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْإِزَالَةِ فِي إفَادَةِ الطُّهْرِ قَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُشْتَرَطَ) أَيْ النِّيَّةُ لِيَصِيرَ الْوُضُوءُ قُرْبَةً جَوَابٌ عَنْ طَرِيقَةٍ أُخْرَى سَلَكَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤْتَى بِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ وَحُكْمُهُ الثَّوَابُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوُضُوءِ وَقَالَ النَّبِيُّ «الطَّهَارَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ بِشَرْطِ الْإِخْلَاصِ وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ بِجِهَةِ الْأَمْر إلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ تَتَأَدَّى بِالتُّرَابِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ بَلْ الْمَطْلُوبُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَقَالَ: إنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ لِيَصِيرَ الْوُضُوءُ قُرْبَةً شَرْطٌ وَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ.
، لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَيْ الْوُضُوءَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا قُرْبَةً بَلْ الْوُضُوءُ الْمَشْرُوعُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ شُرِعَ بِطَرِيقِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ وَنَوْعٌ شُرِعَ تَطْهِيرًا مُجَرَّدًا وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ النِّيَّةِ كَغَسْلِ الثَّوْبِ يَعْنِي إذَا نَوَى غَسْلَ الثَّوْبِ لِلصَّلَاةِ وَقَعَ عِبَادَةً مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ وَقَعَ مُعْتَبَرًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً حَتَّى جَازَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّهَارَةُ دُونَ الْقُرْبَةِ وَالصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا يَسْتَغْنِي عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اشْتِرَاطَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute