للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ هِيَ الصَّلَاةُ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أَصْلًا بِوَاسِطَةِ الْكَعْبَةِ كَانَتْ دُونَ الْإِيمَانِ الَّذِي صَارَ قُرْبَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ وَهِيَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ وَالْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً هِيَ بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ وَهَذِهِ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ.

ــ

[كشف الأسرار]

مِنْ الِاعْتِقَادِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّكَلُّمِ لَا رُكْنٌ فَإِنَّ الرُّكْنَ فِي الرِّدَّةِ تَبْدِيلُ الِاعْتِقَادِ لَا غَيْرُ وَهَذَا لَوْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ يَكْفُرُ وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَوْ جَعَلْنَا الْإِقْرَارَ فِي الرِّدَّةِ رُكْنًا لَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنَّا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا كَانَ جَعْلُ الْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ رُكْنًا سَعْيًا فِي إعْلَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ كَانَ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلًا مُعَارِضًا لَهُ فَلَمْ يُثْبِتْ الرِّدَّةَ.

قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ) الَّتِي هِيَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَهَذَا لَمْ تَخْلُ عَنْهَا شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ مَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ» شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ أَنْ يَعْرِفَ النِّعْمَةَ، ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلَهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فِي عِصْيَانِ النِّعَمِ، ثُمَّ يُظْهِرَهَا بِمَقَالِهِ وَأَفْعَالِهِ لِكَوْنِ كِتْمَانِهَا كُفْرَانًا لَهَا.

، ثُمَّ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالنِّعْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ وَنِعْمَةُ الْبَدَنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نِعَمٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ التَّقَلُّبِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَعَلَى نِعَمٍ بَاطِنَةٍ مِنْ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْمَعَانِي فَشُرِعَتْ الصَّلَاةُ شُكْرًا لِنِعَمِ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَبَاطِنِهِ فَأَرْكَانُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ وَجُعِلَ أَفْضَلَ أَرْكَانِهَا طُولُ الْقُنُوتِ لِيُعْرَفَ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرُ الرَّاحَةِ الَّتِي يَنَالُهَا بِالتَّقَلُّبِ عَلَى حَسَبِ الْإِرَادَةِ وَمُوَافَقَةِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَالنِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ الَّتِي هِيَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» أَخْبَرَ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهَا أَيْ، لَكِنَّهَا كَذَا وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ الَّذِي عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأُمِرْنَا بِتَعْظِيمِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: ١٢٥] الْآيَةَ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى هَذِهِ الْقُرْبَةُ إلَّا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الْإِمْكَانِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: ١١٥] لِيَعْلَمَ بِهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَجْهُ اللَّهِ لَا جِهَةَ لَهُ فَجَعَلَ الشَّرْعُ اسْتِقْبَالَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّمَا مَقَامُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فِيهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَفِي الصَّلَاةِ تَقَرُّبٌ بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ فَكَانَتْ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ (ثُمَّ الزَّكَاةُ) أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِإِظْهَارِ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِهَا فِي الدِّينَا وَنَيْلِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَمَا أَنَّ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ بِعِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ الصَّلَاةُ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ بِعِبَادَةٍ مُؤَدَّاةٍ بِجِنْسِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِيَعْرِفَ بِزَوَالِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَالِ الْمَرْغُوبِ فِي اقْتِنَائِهِ إلَى مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْهُ نَفْعٌ وَبِمَا يَلْحَقُ طَبِيعَةٌ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْأَجْوَادِ إنَّا نَجِدُ فِي بَذْلِ الْمَالِ مَا يَجِدُهُ الْبُخَلَاءُ، وَلَكِنَّا نَتَصَبَّرُ وَلِهَذَا كَانَ الْجُودُ قَرِينَ الشُّجَاعَةِ وَقَلَّمَا يَفْتَرِقَانِ لِتَوَلُّدِهِمَا مِنْ قُوَّةِ الْقَلْبِ قَدْرَ مَا أَزَالَ إلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ وَأَتَى مِنْ الْبَسِيطَةِ فِي فَنُونِهَا إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ دُونَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>