ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنِعْمَةِ الْبَدَنِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَصْلِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى صَارَتْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وِقَايَةُ النَّفْسِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهَا وَيُنْتَفَعُ بِالنَّفْسِ بِدُونِ الْمَالِ فَكَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ أَعْلَى رُتْبَةً مِمَّا تَعَلَّقَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ وَقَوْلُهُ وَالْأَوْلَى صَارَتْ قُرْبَةً دَلِيلٌ آخَرُ أَيْ وَلِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهَا بِوَجْهٍ وَقَدْ يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالسَّبُعِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ.
وَهَذِهِ أَيْ الزَّكَاةُ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْمُؤَدِّيَ يَجْعَلُ الْمَالَ الْمُؤَدَّى خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ضِمْنِ صَرْفِهِ إلَى الْمُحْتَاجِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَتْ الزَّكَاةُ دُونَ الصَّلَاةِ بِدَرَجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلُوصَ فِي الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ عِبَادَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: ٥] وَفِي قَوْلِهِ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْفَقِيرِ حَقِيقَةَ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ حَتَّى صَارَ الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْفَقِيرِ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ إذَا ظَفِرَ بِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لَهُ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ وَيَسْتَحِقَّ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْأَدَاءَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْفَقِيرِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ وَلَا يُقَالُ لِمَا وَجَبَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ كَانَ الْمَالُ حَقَّهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا يَجِبُ لِفَقْرِهِ يَجِبُ رِزْقًا لَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّامِنُ لِلرِّزْقِ دُونَ الْعَبِيدِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْمَالُ حَقَّهُ قَبْلَ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَلَا يَخْرُجُ الزَّكَاةُ بِهِ عَنْ كَوْنِهَا عِبَادَةً خَالِصَةً قَوْلُهُ (ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ) يَعْنِي بَعْدَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدَنِيٌّ خَالِصٌ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ لِلرُّكُوبِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى أَفْعَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بَلْ يَتَأَدَّى بِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فَكَانَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْكَانٍ تَتَأَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ.
وَدُونَ الزَّكَاةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَعْنِي فِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً فَإِنَّ الْبَيْتَ مُعَظَّمٌ بِتَعْظِيمِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْفَقِيرُ مُسْتَحِقٌّ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ بِفَقْرِهِ وَلَا قُبْحَ فِي صِفَةِ الْفَقْرِ، لَكِنَّ النَّفْسَ تَسْتَحِقُّ الْقَهْرَ لِمَيْلِهَا إلَى الشَّهَوَاتِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَهَذِهِ صِفَةُ قُبْحٍ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَتْ أَقْوَى فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً وَأَقْرَبَ إلَى كَوْنِهَا مَقْصُودَةً وَلِهَذَا صَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» .
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَك وَهَوَاك» وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ أَنَّهَا دُونَهُمَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا ذَاتُ الْفَاعِلِ وَفِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُهُمَا وَخَارِجَةٌ عَنْ ذَاتِهِمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ذَاتُهُ وَاسِطَةً؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا إذْ الْإِيمَانُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الذَّاتِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةُ مِثْلُ الْإِيمَانِ، لَكِنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَّا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ لَهَا فَكَانَ دُونَهَا وَكَذَا الزَّكَاةُ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ بِتَبَعٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute