للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ فَكَانَتْ دُونَ الصَّوْمِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ، ثُمَّ الْجِهَادُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَا هُنَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَصَارَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ مَقْصُودَةٌ بِالرَّدِّ وَالْمَحْوِ وَالِاعْتِكَافُ شُرِعَ لِإِدَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ مِنْ التَّوَابِعِ وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّ بِالْمَسَاجِدِ.

ــ

[كشف الأسرار]

لِشَيْءٍ فَكَانَتْ فَوْقَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْجَهُ وَأَوْفَقُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ قَوْلُهُ (ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ) أَيْ عَنْ الْأَوْلَادِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَقْرَانِ وَالْإِخْوَانِ وَسَفَرٌ إلَى زِيَارَةِ بَيْتِ الرَّحْمَنِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ أَيْ تَخْتَصُّ بِبِقَاعٍ أَوْ تَقَعُ فِي بِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَأَوْقَاتٍ شَرِيفَةٍ مِنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ الْحَجُّ دُونَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ كَأَنَّهَا أَيْ كَأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْأَوْطَانَ وَجَانَبَ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَانْقَطَعَ عَنْهُ مَوَادُّ الشَّهَوَاتِ فِي الْبَوَادِي وَانْسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهَا فِي الْفَيَافِي ضَعَّفَ نَفْسَهُ وَزَالَ عَنْهَا الْجَمُوحَةَ وَقَدَرَ عَلَى قَهْرِهَا بِالصَّوْمِ فَكَانَ الْحَجُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَسِيلَةِ إلَى الصَّوْمِ فَكَانَ دُونَهُ (فَإِنْ قِيلَ) الْوَسَائِطُ فِي الْحَجُّ جَمَادَاتٌ لَيْسَتْ لَهَا صَلَاحِيَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَاسِطَةُ فِي الصَّوْمِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْقَهْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَوْقَ الصَّوْمِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: الْوَسَائِطُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، لَكِنَّ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ لِلْكَعْبَةِ إذْ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ لِتَعْظِيمِهَا وَكَذَا مَعْنَى قَهْرِ النَّفْسِ الَّذِي فِي الصَّوْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ مَعَ هَذِهِ الْوَسَائِطِ فَلِذَلِكَ كَانَ دُونَ الصَّوْمِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ أَيْ قُرْبَةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهَا تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ كَسُنَنِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْوَسِيلَةِ لَا يُوجِبُ عَدَدًا مِنْ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ الْجِهَادُ يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.

فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلُهُ فَرْضٌ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ إعْلَاءَ الدِّينِ فَرْضٌ عَلَى الْكُلِّ، لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا وَهِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرَّدِّ وَالْإِعْدَامِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ لِإِزَالَةِ الْكُفْرِ وَإِعْدَامِهِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَحْصُلْ كَمَا فِي التَّغَيُّرِ الْعَامِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَذَلِكَ أَيْ الْكُفْرُ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ ثَابِتَةٌ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ أَمْرًا عَارِضًا فِيهِ فَالْجِهَادُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً أَصْلِيَّةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْوَسَائِطَ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ أَصْلِيَّةً وَالِاعْتِكَافُ أَخَّرَ الِاعْتِكَافَ عَنْ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ الْفُرُوضِ وَالِاعْتِكَافُ مِنْ السُّنَنِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِتَوَاتُرِ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَرَضِيَ بِأَدَائِهَا فِي أَزْمِنَةٍ قَلِيلَةٍ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ فَكَانَ الِاعْتِكَافُ أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إدَامَةُ الصَّلَاةِ إمَّا بِالِاشْتِغَالِ بِحَقِيقَةِ الْأَدَاءِ وَبِالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ صَحَّ النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِالصَّلَاةِ مَعْنًى وَالتَّابِعُ لِلشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إدَامَةُ الصَّلَاةِ اُخْتُصَّ الِاعْتِكَافُ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ أَمْكِنَةُ الصَّلَاةِ وَالْمُعَدَّةُ لَهَا.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ زَائِدَةٌ يَعْنِي عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ الْمُعَظَّمِ بِالْمُقَامِ فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>