للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ أَنَّ الْقَذْفَ كَبِيرَةٌ وَهَتْكٌ لِعِرْضِ الْمُسْلِمِ وَالْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِ الْعِفَّةُ فَصَارَ كَبِيرَةً بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْعَجْزُ مُعَرِّفٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابِ فِي جَزَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِعْلٌ كُلُّهُ وَهُوَ الْجَلْدُ وَإِبْطَالُ الشَّهَادَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: ٤] ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ مُعَرِّفًا كَمَا لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَلْدِ.

ــ

[كشف الأسرار]

فِعْلٌ يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقَذْفِ سَابِقًا عَلَى الْعَجْزِ فَكَانَ الْعَجْزُ فِيهِ شَرْطًا لِأَنَّ إقَامَةَ الْجَلْدِ يَصِيرُ مُضَافَةً إلَيْهِ وُجُودًا عِنْدَهُ.

وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُ الْعَجْزِ مُعَرِّفًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَذْفَ كَبِيرَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَهَتْكِ سَتْرِ الْعِفَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا لِأَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ يَمْنَعَانِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَصَارَ الْقَذْفُ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةً وَكَذِبًا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْكَبَائِرِ فِي ثُبُوتِ سِمَةِ الْفِسْقِ وَسُقُوطِ الشَّهَادَةِ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا وَبِالْعَجْزِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَيَتَبَيَّنُ كَذِبُهُ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ الْعَجْزُ مُعَرِّفًا فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ مَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَيَنْقُضُ قَضَاؤُهُ.

كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحِسْبَةِ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ التَّرَدُّدَ فِي نَفْسِ الْجِنَايَةِ بَلْ التَّرَدُّدُ فِي عِلْمِ الْقَاضِي وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِالْجِنَايَةِ مِنْ الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمِثْلِ هَذَا التَّرَدُّدِ فَإِنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَائِمٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ مَعَ ذَلِكَ يَصِيرُ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابِ فِي جَزَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤] فِعْلٌ كُلُّهُ أَيْ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَمْرٌ حُكْمِيٌّ وَالْآخَرُ فِعْلٌ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلٌ خُوطِبَ الْإِمَامُ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْقَاذِفِ وَهُوَ أَيْ الْفِعْلُ الثَّابِتُ بِالْكِتَابِ الْجَلْدُ وَإِبْطَالُ الشَّهَادَةِ لَا سُقُوطُ الشَّهَادَةِ بَلْ السُّقُوطُ حُكْمُ الْإِبْطَالِ لَا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلْقَذْفِ.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفًا أَيْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: ٤] يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَئِمَّةَ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: ٤] وَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا تَقْبَلُوا مُخَاطِبًا لَهُمْ أَيْضًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا خُوطِبَ الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهِ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ فِعْلًا وَيَكُونُ أَمْرًا حُكْمِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لَمْ يَصْلُحْ الْعَجْزُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَرِّفًا لِلْجِنَايَةِ السَّابِقَةِ كَمَا لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ أَيْ لَمْ يُجْعَلْ مُعَرِّفًا فِي حَقِّ الْجَلْدِ بَلْ يُجْعَلُ شَرْطًا لِإِبْطَالِ الشَّهَادَةِ كَمَا جُعِلَ شَرْطًا لِلْجَلْدِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرَغْرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: ٤] شَرْطٌ.

وَقَوْلُهُ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤] مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِنِسَائِهِ: الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ ثُمَّ تُكَلِّمُ زَيْدًا فَهِيَ طَالِقٌ كَانَ كَلَامُ زَيْدٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِثْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ الْجَلْدُ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِهِمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ رَدُّ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقًا بِالرَّمْيِ وَحْدَهُ لِتَأَدِّيهِ إلَى إلْغَاءِ الشَّرْطِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ وَهُوَ فَاسِدٌ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِعَلَامَةٍ مَحْضَةٍ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّعْرِيفِ أَيْ جَعْلِهِ مُعَرِّفًا إلَى أَنْ نُثْبِتَ أَنَّ الْقَذْفَ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْفِسْقِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ لَيْسَ الْقَذْفُ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةً لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً فَإِنَّهُ لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ يُقْبَلُ وَيُتَيَقَّنُ أَنَّهُ مُحْتَسِبٌ بِذَلِكَ الْقَذْفِ فِي إقَامَةِ حَدِّ الشَّرْعِ عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَعْوَى الزِّنَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ إذَا عَلِمَ إصْرَارَهُ عَلَيْهِ وَوَجَدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>