للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ النِّعَمِ خُلِقَ مُتَفَاوِتًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ نُورٌ فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ الْأَرْضِ تُضِيءُ بِهِ الطَّرِيقَ الَّذِي مَبْدَؤُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْقَطِعُ إلَيْهِ أَثَرُ الْحَوَاسِّ ثُمَّ هُوَ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ وَإِذَا وَضَحَ لَنَا الطَّرِيقُ كَانَ الدَّرْكُ لِلْقَلْبِ بِفَهْمِهِ كَشَمْسِ الْمَلَكُوتِ الظَّاهِرِ إذَا بَزَغَتْ وَبَدَا شُعَاعُهَا وَوَضَحَ الطَّرِيقُ كَانَ الْعَيْنُ مُدْرِكَةً بِشِهَابِهَا وَمَا بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ بِحَالٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ حَتَّى إذَا عَقَلَتْ الْمُرَاهِقَةُ وَلَمْ تَصِفْ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لَمْ تُجْعَلْ مُرْتَدَّةً وَلَمْ تَبِنْ مِنْ زَوْجِهَا

ــ

[كشف الأسرار]

أَلْزَمَ الِاسْتِدْلَالَ بِلَا وَحْيٍ وَلَمْ يَعْذُرْهُ بِغَلَبَةِ الْهَوَى مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَقَدْ غَلَا بَلْ الْعَقْلُ مُعْتَبَرٌ لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ أَيْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ إذْ الْخِطَابُ لَا يُفْهَمُ بِدُونِ الْعَقْلِ وَخِطَابُ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَبِيحٌ فَكَانَ الْعَقْلُ مُعْتَبَرًا لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ.

١ -

وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ النِّعَمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَازُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا وَلِمَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خُلِقَ مُتَفَاوِتًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ هَذَا نَفْيٌ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ الْعَقْلَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ بِمُتَفَاوِتٍ فِي الْبَشَرِ كَالْحَيَوَانِيَّةِ وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ وَذَلِكَ مِنْهُمْ إنْكَارُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ فَإِنَّا نَرَى تَفَاوُتَ حِدَّةَ الْأَذْهَانِ وَجَوْدَةَ الْقَرَائِحِ فِي الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ نُشُوئِهِمْ، وَكَذَا فِي الْبَالِغِينَ مِنْ غَيْرِ جُهْدٍ سَبَقَ مِنْهُمْ وَلَا تَجْرِبَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ فَإِنْكَارُ ذَلِكَ كَانَ كَإِنْكَارِ تَفَاوُتِ الْخَلْقِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ قَبْلَ هَذَا يَعْنِي فِي بَابِ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي أَنَّهُ أَيْ الْعَقْلَ نُورٌ فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ.

وَقِيلَ مَحَلُّهُ مِنْهُ الرَّأْسُ وَقِيلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ يُضِيءُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ النُّورِ الطَّرِيقَ الَّذِي مَبْدَؤُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْقَطِعُ إلَيْهِ أَثَرُ الْحَوَاسِّ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى حَيْثُ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ

وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يُحَسُّ أَصْلًا فَإِنَّمَا نَبْتَدِئُ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُوجَدُ كَالْعِلْمِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ وَلَمَّا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى ذَاتِ الْعَالِمِ أَمْ رَاجِعٌ إلَى غَيْرِ ذَاتِهِ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِ أَثَرِ الْحَوَاسِّ وَفِي اللَّامِسِيِّ هُوَ جَوْهَرٌ يُدْرَكُ بِهِ الْغَائِبَاتُ بِالْوَسَائِطِ وَالْمَحْسُوسَاتُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَقِيلَ هُوَ جَوْهَرٌ طُهِّرَ بِمَاءِ الْقُدُّوسِ وَرُوِّحَ بِرَوَائِحِ الْأُنْسِ وَأُودِعَ فِي قَوَالِبَ بَشَرِيَّةٍ وَأَصْدَافٍ إنْسَانِيَّةٍ كُلَّمَا أَضَاءَ اسْتَنَارَ مَنَاهِجُ الْيَقِينِ وَإِذَا أَظْلَمَ خَفِيَ مَدَارِجُ الدِّينِ وَقِيلَ هُوَ قُوَّةٌ فِي الطَّبِيعَةِ تَنْزِلُ فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ ثُمَّ هُوَ أَيْ الْعَقْلُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ آلَةٌ وَالْآلَةُ لَا تَعْمَلُ بِدُونِ الْفَاعِلِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ شَيْئًا وَلَا مُدْرِكًا بِنَفْسِهِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا وَلَكِنْ إذَا وَضَحَ بِهِ الطَّرِيقُ أَيْ طَرِيقُ الْإِدْرَاكِ لِلْعَاقِلِ كَانَ الدَّرَكُ أَيْ إدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ لِلْقَلْبِ بِفَهْمِهِ وَهُوَ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْمُضْغَةِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ قَالَ تَعَالَى {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: ٧٧] .

وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى دَرْكِ الْحَاجَةِ» أَيْ إدْرَاكِهَا كَشَمْسِ الْمَلَكُوتِ الظَّاهِرَةِ إذَا بَزَغَتْ أَيْ طَلَعَتْ كَانَتْ الْعَيْنُ مُدْرِكَةً لِلْأَشْيَاءِ بِشِهَابِهَا أَيْ بِنُورِهَا وَالضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُوجِبَ الشَّمْسُ رُؤْيَةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مُدْرِكَةً إيَّاهَا أَوْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُسْتَغْنِيَةً فِي الْإِدْرَاكِ عَنْهَا فَكَذَا الْقَلْبُ يُدْرِكُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ الْحَوَاسِّ بِنُورِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ مُوجِبًا لِذَلِكَ أَوْ لَا يَكُونَ مُدْرِكًا بِنَفْسِهِ بَلْ الْقَلْبُ يُدْرِكُ بَعْدَ إشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ. وَشُعَاعُ الشَّمْسِ مَا يُرَى مِنْ ضَوْئِهَا عِنْدَ طُلُوعِهَا كَالْقُضْبَانِ وَالشِّهَابُ بِكَسْرِ الشِّينِ شُعْلَةُ نَارٍ سَاطِعَةٌ وَذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا الْعَقْلُ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْقُولَاتِ كَالسَّمْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>