مَا خَلَا الْقَرْضَ فَإِنَّهُ مِلْكُ الْقَاضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ لَمَّا كَانَتْ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ انْقَلَبَ الْقَرْضُ بِحَالِ الْقَضَاءِ نَفْعًا مَحْضًا لَا يَشُوبُهُ مَضَرَّةٌ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَطَبِ وَالدَّيْنَ مَأْمُونُ الْعَطَبِ إلَّا مِنْ قِبَلِ التَّوَى وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَصَارَ مُلْحَقًا بِهَذَا الشَّرْطِ بِالْمَنَافِعِ الْخَالِصَةِ.
وَأَمَّا مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ وَمَلَكَهُ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِحُكْمِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ وَقَدْ صَارَ أَهْلًا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمُبَاشَرَةُ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا لِلْحُكْمِ كَانَ أَهْلًا لِلسَّبَبِ لَا مَحَالَةَ وَفِي الْقَوْلِ بِصِحَّةِ مُبَاشَرَتِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ أَصَابَهُ مِثْلُ مَا يُصَابُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ لَا مَحَالَةَ مَعَ فَضْلِ نَفْعِ الْبَيَانِ وَتَوْسِيعِ طَرِيقِ الْإِصَابَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالْإِشْفَاقِ لَا مَظِنَّةَ الْإِضْرَارِ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَلَمْ يَشْرَعْ فِي حَقِّهِ الْمَضَارَّ وَذَلِكَ أَيْ مَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي الْعَاجِلِ بِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالرَّقَبَةِ وَالْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْ مُبَاشَرَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ أَيْ مَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِثْلُ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي لِأَنَّ وِلَايَةَ هَؤُلَاءِ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَقِّهِ عَدَمَهَا عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ فَأَمَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فَإِنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ زَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ حَتَّى إنَّ امْرَأَتَهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ قَالَ وَهَذَا وَهْمٌ عِنْدِي فَإِنَّ الطَّلَاقَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ إذْ لَا ضَرَرَ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا الضَّرَرُ فِي الْإِيقَاعِ حَتَّى إذَا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى صِحَّةِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَانَ صَحِيحًا قَالَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا مِلْكَ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهِ كَانَ خَالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ وَهُوَ وِلَايَةُ الْإِيقَاعِ وَالسَّبَبُ الْخَالِي عَنْ حِكْمَةٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ وَطَلَاقِ الْبَهِيمَةِ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ خُلُوَّهُ عَنْ حِكْمَةٍ إذْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَأَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَإِذَا ارْتَدَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا وَجَدَتْهُ امْرَأَتُهُ مَجْبُوبًا فَخَاصَمَتْهُ فِي ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ طَلَاقًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَإِذَا كَاتَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ نَصِيبَ الصَّغِيرِ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ صَارَ الصَّبِيُّ مُعْتِقًا نَصِيبَهُ حَتَّى يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَهَذَا الضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِعْتَاقِ فَيُكْتَفَى بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ فِي جَعْلِهِ مُعْتِقًا لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ فَلَا يُجْعَلُ ثَابِتًا لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا ضَرَرٌ مَحْضٌ قَوْلُهُ (مَا خَلَا الْقَرْضَ) أَيْ الْإِقْرَاضَ فَإِنَّ الْقَاضِي يَمْلِكُهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَيُنْدَبُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ لَمَّا كَانَتْ مُفَوَّضَةً إلَى الْقُضَاةِ انْقَلَبَ الْقَرْضُ بِحَالِ الْقَضَاءِ نَفْعًا مَحْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ قَطْعُ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ بِبَدَلٍ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ إذْ الِاسْتِقْرَاضُ فِي الْعَادَاتِ مِمَّنْ هُوَ فَقِيرٌ غَيْرُ مَلِيٍّ وَلِهَذَا حَلَّ مَحَلَّ الصَّدَقَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا فِي الثَّوَابِ لِزِيَادَةِ الْحَاجَةِ فَأَشْبَهَ التَّبَرُّعَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ فَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ وَالْعِتْقَ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَحَّ مِنْ الْقَاضِي وَصَارَ هُوَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِوَاسِطَةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي يَعْدِلُ الْعَيْنَ وَزِيَادَةً لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْلُبَ مَلِيئًا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَيُقْرِضَهُ مَالَ الْيَتِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ وَالْبَدَلُ مَأْمُونٌ عَنْ التَّوَى بِاعْتِبَارِ الْمَلَاءِ وَبِاعْتِبَارِ عِلْمِ الْقَاضِي وَإِمْكَانِ تَحْصِيلِهِ الْمَالَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى دَعْوَى وَبَيِّنَةٍ فَكَانَ مَصُونًا عَنْ التَّلَفِ فَوْقَ صِيَانَةِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ يَعْرِضُ التَّلَفَ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ.
فَصَارَ الْقَرْضُ مُلْحَقًا بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالْمَنَافِعِ الْخَالِصَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْقَرْضُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute