وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا مُتَنَاقِضًا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِصِحَّةِ كَثِيرٍ مِنْ عِبَارَاتِهِ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَفِي الْإِيصَاءِ وَفِي الْعِبَادَاتِ وَقَالَ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ وَأَبْطَلَ الْإِيمَانَ وَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَشْيَاءِ مَوْضُوعًا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُولَيًا عَلَيْهِ لَمْ يَصْلُحْ وَلِيًّا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا سِمَةُ الْعَجْزِ وَالْبَاقِيَ آيَةُ الْقُدْرَةِ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَأَجْرَى هَذَا الْأَصْلُ فِي الْفُرُوعِ فَطَرَدَهُ لِأَفْقَهِ مَعْقُولٍ فَقَالَ يَصِحُّ اخْتِيَارُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَلَا يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْهِبَةِ فِي قَوْلٍ صَحِيحٌ مِنْهُ دُونَ الْوَلِيِّ وَفِي قَوْلٍ عَكْسُهُ وَلَا فِقْهَ فِيهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى دَلِيلِ الصِّحَّةِ وَالْعَدَمِ مِنْ الصَّبِيِّ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ قَاصِرَ الْأَهْلِيَّةِ صَلُحَ مُولَيًا عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ صَاحِبَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ صَلُحَ وَلِيًّا
ــ
[كشف الأسرار]
وَعِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ يَتَقَرَّرُ يَدُهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي رِقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَقَالَ هُوَ عَبْدِي أَوْ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ إذَا ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِإِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ مُدَّعِيًا لِلْحُرِّيَّةِ بِوَجْهٍ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِي صِحَّةِ رِدَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَعَ جَهْلِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَالِمًا بِهِ حَتَّى يَكُونَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَالْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ مِنْ الْخَبَرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لِذَلِكَ الْغُلَامِ فَقَالَ اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ» فَبِبَرَكَةِ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتَارَ مَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ: جُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ خِلَافًا مُتَنَاقِضًا ثُمَّ بَيَّنَ التَّنَاقُضَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِصِحَّةِ كَثِيرٍ مِنْ عِبَارَاتِهِ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَفِي الْإِيصَاءِ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي الْعِبَادَاتِ حَيْثُ قَالَ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الصَّبِيِّ وَصِحَّتُهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَةَ تَنْعَقِدُ بِالْعِبَارَةِ وَالْقِرَاءَةُ وَالْأَذْكَارُ فِي الصَّلَاةِ عِبَارَاتٌ أَيْضًا وَهِيَ صَحِيحَةٌ مِنْ الصَّبِيِّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْبَالِغِ وَقَالَ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ الصَّبِيُّ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ عِنْدَهُ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ لَهُ نَفْعٌ وَكَذَا لَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ عِنْدَهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ بَلْ هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَأَبْطَلَ الْإِيمَانُ أَيْ أَبْطَلَ عِبَارَتَهُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى لَوْ سُمِعَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَطَوْعٍ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ حَيْثُ صَحَّحَ عِبَارَتَهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ لِمَعْنَى النَّفْعِ وَلَمْ يُصَحِّحْهَا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ.
وَلَيْسَ لَهُ فِقْهٌ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ إلَى الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ الْمُودَعِ فِيهَا وَإِنَّمَا لَهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ يَطْرُدُهُ فِي الْمَسَائِلِ وَهُوَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ لَا يُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ يُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُولَيًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصْلُحْ وَلِيًّا فِيهِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ كَوْنُهُ مُولَيًا عَلَيْهِ سِمَةُ الْعَجْزِ أَيْ عَلَامَتُهُ.
وَالثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ آيَةُ الْقُدْرَةِ وَهُمَا أَيْ كَوْنُهُ عَاجِزًا وَكَوْنُهُ قَادِرًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُتَضَادَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فَلَمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُولَيًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ وِلَايَتِهِ فِيهِ إذْ لَوْ بَقِيَتْ لَمَا ثَبَتَ لِلْغَيْرِ وِلَايَةٌ فِيهِ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلِذَلِكَ فَسَدَتْ عِبَارَتُهُ فِيمَا صَارَ مُولَيًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ وَكَذَا فِيمَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَقَالَ يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ هَذَا الِاخْتِيَارِ لَا تَحْصُلُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ فَتُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ عِبَارَتُهُ فِيهِ لَا تُعْتَبَرُ عِبَارَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِيَارُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ قَبُولُ الْهِبَةِ فِي قَوْلٍ يَصِحُّ مِنْهُ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ وَإِذَا مَلَكَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ وَفِي قَوْلٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَيَصِحُّ مِنْ الْوَلِيِّ كَالْبَيْعِ وَلَا فِقْهَ فِيهِ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ أَيْ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَبْنِ الْأَمْرَ عَلَى دَلِيلِ الصِّحَّةِ وَالْعَدَمِ مِنْ الصَّبِيِّ أَيْ عَلَى دَلِيلِ تَبَيُّنِ صِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ مِنْهُ بَلْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ الْفِقْهِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ الصَّبِيُّ قَاصِرَ الْأَهْلِيَّةِ صَلَحَ مُولَيًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قُصُورِ الْعَقْلِ وَلَمَّا كَانَ صَاحِبَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ بِوُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ صَلَحَ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute