أَمَّا السَّمَاوِيُّ فَهُوَ الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالْعَتَهُ وَالنِّسْيَانُ وَالنَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْمَرَضُ وَالرِّقُّ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالْمَوْتُ.
وَأَمَّا الْمُكْتَسَبُ فَإِنَّهُ نَوْعَانِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ أَمَّا الَّذِي مِنْهُ فَالْجَهْلُ وَالسُّكْرُ وَالْهَزْلُ وَالسَّفَهُ وَالْخَطَأُ وَالسَّفَرُ وَأَمَّا الَّذِي مِنْ غَيْرِهِ فَالْإِكْرَاهُ بِمَا فِيهِ إلْجَاءٌ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِ إلْجَاءٌ. أَمَّا الْجُنُونُ فَإِنَّهُ فِي الْقِيَاسِ مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْقُدْرَةِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْأَدَاءُ فَيَنْعَدِمُ الْوُجُوبُ لِانْعِدَامِهِ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِيهِ إذَا زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ فَجَعَلُوهُ عَفْوًا وَأَلْحَقُوهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالْإِرْضَاعَ وَالشَّيْخُوخَةَ الْقَرِيبَةَ إلَى الْفَنَاءِ مِنْ الْعَوَارِضِ وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ لِدُخُولِهَا فِي الْمَرَضِ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ ذِكْرًا لَهَا كَذَا قِيلَ وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَإِنَّهُمَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا وَإِنْ دَخَلَا فِي الْمَرَضِ لَكِنَّهُمَا اخْتَصَّا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهَا فَأَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ سَمَاوِيٌّ وَهُوَ مَا يَثْبُتُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلِهَذَا نُسِبَ إلَى السَّمَاءِ فَإِنَّ مَا لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ يُنْسَبُ إلَى السَّمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ نَازِلٌ مِنْ السَّمَاءِ وَمُكْتَسَبٌ وَهُوَ مَا كَانَ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِيهِ مَدْخَلٌ.
وَقَدَّمَ السَّمَاوِيَّ عَلَى الْمُكْتَسَبِ ذِكْرًا لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْعَارِضِيَّةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْمُكْتَسَبِ وَذَكَرَ الصِّغَرَ مِنْ الْعَوَارِضِ مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِكُلِّ إنْسَانٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْلُو عَنْ الصِّغَرِ كَآدَمَ وَحَوَّاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَضِيَ عَنْهَا فَإِنَّهُمَا خُلِقَا كَمَا كَانَا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ صِغَرٍ ثُمَّ اعْتَرَضَ الصِّغَرُ عَلَى أَوْلَادِهِمَا وَلِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ قَدْ تُعْرَفُ بِدُونِ وَصْفِ الصِّغَرِ وَلِهَذَا كَانَ الْكَبِيرُ إنْسَانًا فَكَانَ الصِّغَرُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةً وَجَعَلَ الْجَهْلَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ مَعَ أَنَّهُ أَصْلِيٌّ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: ٧٨] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ فَكَانَ تَرْكُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالِاخْتِيَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِ الْجَهْلِ وَكَسْبِهِ وَهَذَا كَالْكَافِرِ يُجْعَلُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ بِوَاسِطَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَرْكُهُ الْإِسْلَامَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَرْكًا لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهَا فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى تَرْكِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إزَالَتِهِ فِي الْأَصْلِ بِوَاسِطَةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ الْأَجْزِئَةِ بَلْ هِيَ تَثْبُتُ جَبْرًا كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَبَعْدَمَا يَثْبُتُ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ إزَالَتِهِ فَكَانَ مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ ثُمَّ إنَّهُ قَدَّمَ الصِّغَرَ فِي تَعْدَادِ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْجَهْلَ فِي تَعْدَادِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّ.
وَقَدَّمَ الْجُنُونَ عَلَى الصِّغَرِ فِي تَفْصِيلِ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ لِأَنَّ حُكْمَ الصِّغَرِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ حُكْمُ الْجُنُونِ فَقَدَّمَ بَيَانَ الْجُنُونِ لِيُمْكِنَهُ إلْحَاقُ الصِّغَرِ بِهِ قَوْلُهُ (أَمَّا الْجُنُونُ) فَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْجُنُونِ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَقْلِ وَمَحَلِّهِ وَأَفْعَالِهِ فَالْعَقْلُ مَعْنًى يُمْكِنُ بِهِ الِاسْتِدْلَال مِنْ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَحَلُّهُ الدِّمَاغُ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ انْعِدَامَ آثَارِهِ وَتَعْطِيلَ أَفْعَالِهِ الْبَاعِثُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أَفْعَالٍ مُضَادَّةٍ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فِي عَامَّةِ أَطْرَافِهِ وَفُتُورٍ فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِ يُسَمَّى جُنُونًا وَالْأَسْبَابُ الْمُهَيِّجَةُ لَهُ إمَّا نُقْصَانٌ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ وَطُبِعَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ مَا أُعِدَّ لِقَبُولِهِ مِنْ الْعَقْلِ كَعَيْنِ الْأَكْمَهِ وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الِاشْتِغَالِ بِعِلَاجِهِ وَإِمَّا مَعْنًى عَارِضٌ أَوْجَبَ زَوَالَ الِاعْتِدَالِ الْحَاصِلِ لِلدِّمَاغِ خِلْقَةً إلَى رُطُوبَةٍ مُفْرِطَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُعَالَجُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَفِي النَّوْعَيْنِ يَتَيَقَّنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute