للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ كَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ مَا قُلْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - عُصِمُوا عَنْهُ لَكِنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَدَّ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا حَرَجًا عَلَى مَا قُلْنَا وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا كَانَ عَارِضًا غَيْرَ أَصْلِيٍّ لِيُلْحَقَ بِالْعَوَارِضِ فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا فَإِذَا زَالَ صَارَ فِي مَعْنَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا سَوَاءٌ وَاعْتَبَرَ فِيمَا يَزُولُ عَنْهُ فَيُلْحَقُ بِأَصْلِهِ وَهُوَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ يَتَفَاوَتُ بَيْنَ مَدِيدٍ وَقَصِيرٍ فَيُلْحَقُ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ بِالْعَارِضِ وَذَلِكَ فِي الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ إذَا زَالَ قَبْلَ انْسِلَاخِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

ــ

[كشف الأسرار]

بِزَوَالِ الْعَقْلِ لِفَسَادِ أَصْلِيٍّ أَوْ عَارِضٍ فِي مَحَلِّهِ كَمَا يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ عَنْ الْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ لِفَسَادٍ فِيهَا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِعَارِضِ أَمْرٍ أَصَابَهَا وَإِمَّا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فَيُخَيِّلُهُ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةَ وَيَفْزَعُهُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ فَيَطِيرُ قَلْبُهُ وَلَا يَجْتَمِعُ ذِهْنُهُ مَعَ سَلَامَةٍ فِي مَحَلِّ الْعَقْلِ خِلْقَةً وَبَقَائِهِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَيُسَمَّى هَذَا الْمَجْنُونُ مَمْسُوسًا لِتَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ إيَّاهُ وَمُوَسْوَسًا لِإِلْقَائِهِ الْوَسْوَسَةَ فِي قَلْبِهِ وَيُعَالَجُ هَذَا النَّوْعُ بِالتَّعَاوِيذِ وَالرُّقَى.

وَفِي هَذَا النَّوْعِ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا كَانَ لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ غَيْرُ زَائِلٍ عَادَةً لِعَدَمِ جَرَيَانِ التَّبْدِيلِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْكَمَهِ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ بِزَوَالِ الِاعْتِدَالِ أَوْ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ فَهُوَ عَارِضٌ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ الْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا أَيْ مَانِعًا لِوُجُوبِهَا أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ عَارِضًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى قَالَا: لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَوْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ وَكَذَا إذَا أَفَاقَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُنَافِي الْقُدْرَةَ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالْجُنُونُ يُزِيلُ الْعَقْلَ فَلَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الْخِطَابِ وَالْعِلْمِ بِهِ بِدُونِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَخَصُّ أَوْصَافِ الْقُدْرَةِ فَتَفُوتُ الْقُدْرَةُ بِفَوْتِهِ وَبِفَوْتِ الْقُدْرَةِ يَفُوتُ الْأَدَاءُ وَإِذَا فَاتَ الْأَدَاءُ عُدِمَ الْوُجُوبُ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ بِدُونِ الْأَدَاءِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ تَفُوتُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّبِيَّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ لَا إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً وَإِذَا كَانَ الصِّغَرُ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ حَتَّى لَمْ يَلْزَمْ الصَّبِيَّ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ إذَا بَلَغَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَالْجُنُونُ أَوْلَى.

وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْإِفَاقَةِ وَقَضَاءُ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْإِغْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُ قَائِمَةٌ لِقِيَامِ الْعَقْلِ إذْ الْإِغْمَاءُ لَا يُنَافِي الْعَقْلَ بَلْ هُوَ عَجْزٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْقُدْرَةِ كَالنَّوْمِ فَكَانَ الْعَقْلُ ثَابِتًا كَمَا كَانَ كَمَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ السَّيْفِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ بِالْإِعْدَامِ فَكَذَا الْإِغْمَاءُ لَكِنَّهُمْ يَعْنِي عُلَمَاءَنَا الثَّلَاثَةَ اسْتَحْسَنُوا فِيهِ أَيْ فِي الْجُنُونِ إذَا زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ فَجَعَلُوهُ عَفْوًا أَيْ سَاقِطًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَلْحَقُوهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْجُنُونَ مِنْ الْعَوَارِضِ كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ وَقَدْ أُلْحِقَ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ كُلِّ عِبَادَةٍ لَا يُؤَدِّي إيجَابُهَا إلَى الْحَرَجِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ زَوَالِهِمَا وَجُعِلَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يُوجَدَا أَصْلًا فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً فَفَاتَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيُلْحَقُ الْجُنُونُ الْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ عَارِضًا بِهِمَا بِجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عُذْرٌ عَارِضٌ زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ عُذْرٍ عَارِضٍ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ هَذَا فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِي حَقِّ لُحُوقِ الْمَأْثَمِ فَالْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوُرُودِ النَّصِّ الْمُنْبِئِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِلَّا مَا آتَاهَا.

أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ الْعَارِضَ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حَتَّى إنَّ مَنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ الصَّوْمَ ثُمَّ نَامَ وَلَمْ يَنْتَبِهْ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ أُغْمِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>