أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ مَرَّةً وَبِالتَّفْوِيتِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا أَثَّرَ فِي إيجَابِهِ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا النُّقْصَانُ فِي مَسْأَلَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَمَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ مِثْلِهِ إلَّا بِالْحَيَاةِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَهُوَ وَقْتٌ مَدِيدٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْقُدْرَةُ فَسَقَطَ
ــ
[كشف الأسرار]
كَلِمَةَ الْحَصْرِ أَيْ لَا يَجِبُ إلَّا بِكَذَا، فِي هَذَا أَيْ فِي النَّذْرِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لَا بِنَصٍّ مَقْصُودٍ وَهُوَ التَّفْوِيتُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّفْوِيتَ كَنَصٍّ مَقْصُودٍ عِنْدَهُمْ، فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ النَّذْرُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إضَافَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّذْرُ.
قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ مَرَّةً) اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إضَافَتُهُ إلَى التَّفْوِيتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْفَوَاتِ، وَذَلِكَ بِأَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ مَرِضَ حَتَّى فَاتَهُ الْمَنْذُورُ لَا بِاخْتِيَارِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَوَاتُ الْمَنْذُورِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ نَذْرٍ ابْتِدَائِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مُخْتَارًا وَلَا اخْتِيَارَ فِي الْفَوَاتِ فَلَا يَكُونُ الْفَوَاتُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مَقْصُودٍ، وَلَمَّا وَجَبَ فِي الْفَوَاتِ كَمَا وَجَبَ فِي التَّفْوِيتِ يُضَافُ إلَى مَعْنًى يَشْمَلُهُمَا، وَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ، وَصُورَةُ الْفَوَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ بِأَنْ مَرِضَ مَرَضًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّوْمِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ بِأَنْ صَارَ مَبْطُونًا أَوْ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ وَجَبَ زَائِدًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلَّةِ فَقَالَ نَعَمْ إلَّا أَنَّ مُطْلَقَ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَقَيُّدِهِ بِوَقْتٍ أَوْ عَدَمِ تَقَيُّدِهِ بِهِ أَوْ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ يَقْتَضِي صَوْمًا لِلِاعْتِكَافِ أَيْ لِلنَّذْرِ الَّذِي يُوجِبُهُ أَثَّرَ فِي إيجَابِهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُهُ وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَابِعٌ لَهُ وَمَا لَا يُتَوَسَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجِبُ كَوُجُوبِهِ تَبَعًا لَهُ،
وَقَيَّدَ بِالْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ النَّفْلِ لَا يُشْتَرَطُ الصَّوْمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ النَّفَلُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ حَتَّى يَجُوزَ صَلَاةُ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ وَالْوَاجِبُ لَا يَجُوزُ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ فَيَثْبُتُ أَنَّ الظَّاهِرَ مَا ذَكَرْنَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الصَّوْمِ بِوُجُوبِ هَذَا الِاعْتِكَافِ، بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، وَهُوَ شَرَفُ الْوَقْتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا النُّقْصَانُ أَيْ عَدَمُ اقْتِضَاءِ الِاعْتِكَافِ صَوْمًا لَهُ أَثَّرَ فِي إيجَابِهِ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ أَيْ بِتَقَيُّدِ الِاعْتِكَافِ وَاتِّصَالِهِ بِوَقْتٍ شَرِيفٍ لَا يَقْبَلُ إيجَابَ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ لِشَرَفِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ إنَّمَا لَمْ يُوجِبْ هَذَا الِاعْتِكَافُ صَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَى شَهْرٍ شَرِيفٍ فَكَانَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ.، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ»
فَاكْتَفَى فِيهِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ لِإِدْرَاكِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، وَمَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ، وَهُوَ زِيَادَةُ فَضِيلَةٍ حَصَلَتْ لِهَذَا الِاعْتِكَافِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ مِثْلِهِ إلَّا بِإِدْرَاكِ الْعَامِ الْقَابِلِ وَذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ لِاسْتِوَاءِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقُدْرَةُ، فَسَقَطَ أَيْ اسْتِدْرَاكُ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ وَاكْتِسَابِ مِثْلِهِ لِلْعَجْزِ كَمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute