للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مَوْرُوثٍ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْغَرَضَ بِهِ دَرْكُ الثَّأْرِ وَإِنْ تَسَلَّمَ حَيَاةَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعَشَائِرِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ لَكِنَّ الْقِصَاصَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قُتِلَ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَحْدَهُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ أَوْ اسْتَوْفَاهُ بَطَلَ أَصْلًا

ــ

[كشف الأسرار]

مَوْتِ الْمَجْرُوحِ يَكُونُ إسْقَاطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِمُوَرِّثِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

وَصَحَّ عَفْوُ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا أَيْضًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْوَارِثِ لَا لِلْمُوَرِّثِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَارِثَ هُوَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ دُونَ الْمُوَرِّثِ فَيَكُونُ الْمُوَرِّثُ بِعَفْوِهِ مُسْقِطًا حَقَّ الْغَيْرِ وَمُسْقِطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ يُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ ثُمَّ بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْوَاجِبِ الْحَقِّ لِلْوَارِثِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمُوَرِّثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِأَهْلِ أَنْ يَجِبَ هَذَا الْحَقُّ لَهُ فَيَجِبُ لِلْوَارِثِ وَبِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الْحَقِّ لِلْمُورِثِ لِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّهِ وَبَعْدَ وُجُودِ هَذَا السَّبَبِ هُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فَصَحَّحْنَا عَفْوَ الْوَارِثِ اسْتِحْسَانًا مُرَاعَاةً لِلْوَاجِبِ وَصَحَّحْنَا عَفْوَ الْمُوَرِّثِ أَيْضًا اسْتِحْسَانًا مُرَاعَاةً لِلسَّبَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: ٤٥] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: ٤٣] فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُوَرَّثٍ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ عَلَى وَجْهٍ يَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ لِمَا قُلْنَا الْغَرَضُ مِنْ دَرْكِ الثَّأْرِ أَيْ الْحِقْدُ يُقَالُ أَدْرَكَ ثَأْرَهُ إذَا قَتَلَ قَاتِلَ حَمِيمِهِ وَإِنْ تَسْلَمُ أَيْ وَسَلَامَةُ حَيَاةِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَعَشَائِرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] وَذَلِكَ أَيْ الْغَرَضُ الْمَذْكُورُ يَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ لَا إلَى الْمَيِّتِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً.

وَقَوْلُهُ لَكِنَّ الْقِصَاصَ وَاحِدٌ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِدَرْكِ خَمَّرَ وَسَلَامَةِ الْحَيَاةِ لِلْأَوْلِيَاءِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْبَعْضُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِدُونِ حُضُورِ الْبَاقِينَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْقِصَاصَ إلَى آخِرِهِ كَذَا قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِمَا بَيَّنَ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ كَمَا قَالَ الْخُصُومُ فَقَالَ لَكِنَّ الْقِصَاصَ وَاحِدٌ يَعْنِي فِي جَانِبِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْقَاتِلُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ إلَّا قَتْلًا وَاحِدًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجْزَاءُ وَاحِدًا وَلَا حَاجَةَ لِصِحَّةِ الْوُجُوبِ إلَى إثْبَاتِ التَّعَدُّدِ حُكْمًا وَكُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ يَمْلِكُ وَحْدَهُ يَعْنِي فِي جَانِبِ الْمُسْتَحَقِّينَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَعَدِّدِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَهُمْ لَمْ يَسْتَقِمْ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ إذْ لَا يُمْكِنُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ عَنْ بَعْضِ الْمَحَلِّ دُونَ الْبَعْضِ وَقَدْ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ وَهُوَ الْقَتْلُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْبَعْضِ ابْتِدَاءً بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا إنْ تَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَبْطُلُ لِتَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ مُتَجَزِّئًا وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.

بِمَنْزِلَةِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِإِيجَابِ زِيَادَةٍ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ لِأَنَّ هَذَا التَّعَدُّدَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بِوَجْهٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الِاسْتِيفَاءَ بِانْفِرَادِهِ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ أَوْ اسْتَوْفَاهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا لِأَنَّ فِي صُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ قَدْ فَاتَ الْمَحَلُّ فَيَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَفِي صُورَةِ الْعَفْوِ لَوْ بَقَّيْنَا الْقِصَاصَ

<<  <  ج: ص:  >  >>