وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاؤُهُ بِقَصْرِ الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ جِنْسِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ قِيَامُ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ شُبْهَةً وَبِالْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الصِّلَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا حَاجَةُ الْمُسْتَحِقِّ.
وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْجِنْسِ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّرُ فَتَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّيَانَةَ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا غَيْرُ حَتَّى لَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَلَا يَثْبُتُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَقْوِيمَ الْأَمْوَالِ وَإِحْصَانَ النُّفُوسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَتَفْسِيرُ الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ فَيَكُونُ فِي تَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ بِدِيَانَتِهِمْ حِفْظٌ عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ مَذْهَبُهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا قُلْنَا مِنْ بَابِ الدَّفْعِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْلَالُهُمْ الرِّبَا
ــ
[كشف الأسرار]
أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ فَلَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا فِي شَرِيعَةٍ وَإِنَّمَا شُرِعَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا بَعْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ ضَرُورِيًّا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاءُ جَوَازِهِ أَوْ حِلِّهِ لِقِصَرِ الدَّلِيلِ أَيْ بِسَبَبِ قُصُورِهِ عَنْهُمْ. فَهَذَا الطَّرِيقُ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّا لَمَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ لَمْ نَمْنَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا لَمْ نَمْنَعْهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ لِفَسَادِ النِّكَاحِ. وَإِذَا وَطِئَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ سَقَطَ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ. وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ أَيْضًا. لِأَنَّ قِيَامَ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ أَيْ تَحْرِيمَ الشَّرْعِ الْمَحَارِمَ عَامًّا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ فَإِنَّ فِي زَعْمِ الْقَاذِفِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ يَا زَانٍ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْحُرْمَةِ وَإِنْ كَانَ فِي زَعْمِ الْمَقْذُوفِ أَنَّهُ كَاذِبٌ.
وَهَذَا الطَّرِيقُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ. وَالْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ بَاطِلٍ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاؤُهُ لِقُصُورِ الدَّلِيلِ فَلَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِفَسَادِهِ كَالْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الثَّانِي فَكَذَا يَعْنِي أَنَّ الطَّرِيقَ الثَّانِي هُوَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَالْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ جِنْسِ الصِّلَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنِّكَاحِ ابْتِدَاءً كَالْمِيرَاثِ لَا أَنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إلَيْهَا فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً فَائِقَةً فِي الْيَسَارِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَمَا وَجَبَتْ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ بِوُجُودِ الْيَسَارِ كَمَا لَا يَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأَبِ وَنَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيجَابِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُوجِبَةً كَمَا قُلْنَا جَمِيعًا فِي مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْحِسِّ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّرُ يَعْنِي أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً تَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَحِقَهُ عَلَى الدَّوَامِ وَمَالُهَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مُقَدَّرٌ فَلَا يَفِي بِالْحَاجَةِ الدَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ دَوَامِ الْحَبْسِ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ كَمَا قُلْنَا.
وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ هَذَا لِجَوَابٍ عَنْ تَكَلُّفٍ اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي فَصْلِ النَّفَقَةِ جَوَابًا آخَرَ كَمَا بَيَّنَّا.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّيَانَةَ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا غَيْرُ) يَعْنِي لَمْ يَجْعَلْهَا دَافِعَةً لِلْخِطَابِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ تَنَاوَلَ الْكَافِرَ كَمَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ وَقَدْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِالْإِشَاعَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ وَإِنْكَارُهُ تَعَنُّتٌ وَجَهْلٌ وَالْجَهْلُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ لَيْسَ بِعُذْرٍ رَفْعُ التَّعَنُّتِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِسَبَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَانُوا بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَانُوا مِنْ الْكُفْرِ فَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَرُّضِ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ وَمَا لَا يَرْجِعُ