. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَمِثْلُ جَهْلِ الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ حُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَزَوَالِهَا عَنْهُ مُشَبِّهِينَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي صِفَاتِهِ. وَهَذَا الْجَهْلُ بَاطِلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَمْعًا وَعَقْلًا. أَمَّا السَّمْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: ٢٥٥] . {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: ١٦٦] . {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: ٥٨] . {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: ٢٤٣] إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَاتٍ هِيَ مَعَانٍ وَرَاءَ الذَّاتِ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَأَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ مَعَانِيَ وَرَاءَ الذَّاتِ إذْ يُحِيلُ الْعَقْلُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَالِمٍ لَا عِلْمَ لَهُ وَحَيٍّ لَا حَيَاةَ لَهُ وَقَادِرٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَبَيْن قَوْلِهِ لَا عِلْمَ لَهُ وَكَذَا فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا أَنَّ مَا هُوَ مَحَلُّ الْحَوَادِثِ حَادِثٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ تَعَالَى حَادِثَةً لِاسْتِلْزَامِهِ حُدُوثَ الذَّاتِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ وَأَنَّ صِفَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ تَحْدُثُ وَتَزُولُ بَلْ هِيَ أَزَلِيَّةٌ لَا أَوَّلَ لَهَا أَبَدِيَّةٌ لَا آخِرَ لَهَا فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بَاطِلًا وَجَهْلًا بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ فَلَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ. وَكَذَا جَهْلُهُمْ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِسُؤَالِ الْمُنْكَرِ وَالنَّكِيرِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَجَوَازُ الْعَفْوِ عَمَّا دُونَ الشِّرْكِ وَجَوَازُ إخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ وَإِنْكَارِهِمْ إيَّاهَا. وَمِثْلُ إنْكَارِ الْجَهْمِيَّةِ خُلُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهَالِيَهُمَا جَهْلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ النَّاطِقَةَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِيهَا عَنْ إنْصَافٍ فَالْجَهْلُ بِهَا لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ كَجَهْلِ الْكَافِرِ. وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْبَاغِي وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِمَامَ عَلَى الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّصُوصِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى كَوْنِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ عَلَى الْحَقِّ مَثَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُمْ لَائِحَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ جَاحِدُهَا مُكَابِرًا مُعَانِدًا.
وَتَوْضِيحُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ قِصَّةِ الْبُغَاةِ وَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَثُرَ الْقِتَالُ وَالْقَتْلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ الْمَصَاحِفَ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ وَقَالُوا لِأَصْحَابِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى نَدْعُوكُمْ إلَى الْعَمَلِ بِهِ فَأَجَابَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى ذَلِكَ وَامْتَنَعُوا عَنْ الْقِتَالِ ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا حَكَمًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَمَنْ اتَّفَقَ الْحَكَمَانِ عَلَى إمَامَتِهِ فَهُوَ الْإِمَامُ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرْضَى بِذَلِكَ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَاخْتِيرَ مِنْ جَانِبِ مُعَاوِيَةَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَكَانَ دَاهِيًا وَمِنْ جَانِبِ عَلِيٍّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي مُوسَى نَعْزِلُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ نَتَّفِقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَجَابَهُ أَبُو مُوسَى إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مُوسَى أَنْتَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنِّي فَاعْزِلْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute