فَكَانَ بَاطِلًا كَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ بِالْقِرَانِ فَكَانَ دُونَ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَنْحَلُ الْإِسْلَامَ لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ فَلَمْ نَعْمَلْ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ وَقُلْنَا فِي الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ أَوْ نَفْسَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ تَلْزَمُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلِيًّا أَوَّلًا عَنْ الْإِمَامَةِ فَصَعِدَ أَبُو مُوسَى الْمِنْبَرَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ أَخْرَجَ خَاتَمَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ.
وَقَالَ أَخْرَجْت عَلِيًّا عَنْ الْخِلَافَةِ كَمَا أَخْرَجْت خَاتَمِي مِنْ أُصْبُعِي وَنَزَلَ ثُمَّ صَعِدَ عَمْرٌو الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَأَدْخُلَهُ فِي أُصْبُعِهِ وَقَالَ أَدْخَلْت مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ كَمَا أَدْخَلْت خَاتَمِي هَذَا فِي أُصْبُعِي فَعَرَفَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الْأَمْرَ فَخَرَجَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرِيبٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ عَسْكَرِهِ زَاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا كَفَرَ حِينَ تَرَكَ حُكْمَ اللَّهِ وَأَخَذَ بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ كَفَرَ.
وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ جَهْلًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَإِنَّ إمَامَةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَبَتَتْ بِاخْتِيَارِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا ثَبَتَتْ إمَامَةُ مَنْ قَبْلَهُ بِهِ وَالرِّضَاءُ بِحُكْمِ الْحَكَمِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَمْرٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْصِيَةً. وَكَذَا الْمُسْلِمُ لَا يُكَفَّرُ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى مُرْتَكِبِ الذَّنْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: ١٧٨] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: ١] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: ٨] . {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: ٣١] وَنَحْوِهَا فَجَهْلُهُمْ بَعْدَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ لَا يَكُونُ عُذْرًا كَجَهْلِ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ صَاحِبَ الْهَوَى أَوْ الْبَاغِيَ. مُتَأَوِّلٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ مُتَمَسِّكٌ بِهِ مُؤَوِّلٌ لَهُ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ فَإِنَّ نَافِيَ الصِّفَاتِ تَمَسَّكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَاتَه بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الصِّفَاتِ لَهُ لَكَانَتْ قَدِيمَةً وَلَكَانَتْ أَغْيَارًا لِلذَّاتِ.
، وَإِثْبَاتُ الْأَغْيَارِ فِي الْأَزَلِ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ. وَمُجَوِّزُ الْحُدُوثِ فِي الصِّفَاتِ تَعَلَّقَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: ٢٢] . {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: ٢١٠] . {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: ١٥٨] . وَالْبَاغِي احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: ٥٧] . {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: ١٤] . {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: ٩٣] فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنَّهُ أَيْ هَذَا الْجَاهِلُ وَهُوَ الْبَاغِي وَصَاحِبُ الْهَوَى لَمَّا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَغْيِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ بِالْهَوَى إذَا لَمْ يَغْلُ فِيهِ. أَوْ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ يَعْنِي إذَا غَلَا فِي هَوَاهُ حَتَّى كَفَرَ وَلَكِنَّهُ يَنْتَسِبُ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ ذَلِكَ كَغُلَاةِ الرَّوَافِضِ وَالْمُجَسِّمَةِ. لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ قَبُولَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ فَلَمْ نَعْمَلْ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ. فَإِذَا اسْتَحَلَّ الْبَاغِي الْأَمْوَالَ أَوْ الدِّمَاءَ بِتَأْوِيلِ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الذَّنْبِ كُفْرٌ لَا يُحْكَمُ بِإِبَاحَتِهَا فِي حَقِّهِ بِتَأْوِيلِهِ كَمَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ حَقًّا فَأَمْكَنَ مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِدِيَانَتِهِ فِي حَقِّهِ.
فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا أَتْلَفَ الْبَاغِي مَالَ الْعَادِلِ أَيْ نَفْسَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَوُجُوبِ الضَّمَانِ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute