فَإِذَا صَارَ لِلْبَاغِي مَنَعَةٌ سَقَطَ عَنْهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِضَمَانٍ
ــ
[كشف الأسرار]
بَاقِيَةٌ. فَإِذَا صَارَ لِلْبَاغِي مَنَعَةٌ سَقَطَ عَنْهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا وَحَقِيقَةً فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِضَمَانٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا لَمْ يُؤْخَذْ أَهْلُ الْحَرْبِ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَتْلَفَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَلَا عِبْرَةَ لِتَأْوِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُ بَعْدَمَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ عَلَى خِلَافِهِ. بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَ الْإِسْلَامِ أَصْلًا.
وَلَنَا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَأَنَّ تَبْلِيغَ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَنْعِهِ قَائِمَةٌ حِسًّا فَلَمْ تَثْبُتْ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ كَمَا لَوْ انْقَطَعَتْ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ قَبِلَ الْكَافِرُ الذِّمَّةَ؛ لِأَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ وَالسُّقُوطَ لَا تَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِذَا انْقَطَعَ الْبُلُوغُ عُدِمَتْ الْحُجَّةُ فَكَانَ تَدَيُّنُ كُلِّ قَوْمٍ عَنْ تَأْوِيلٍ بِمَنْزِلَةِ تَدَيُّنِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مَزِيَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالِاسْتِحْلَالُ بِحُكْمِ مُخَالَفَةِ الدِّينِ حُكْمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا جَازَ لَنَا فِي الْبُغَاةِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَسَاوَى تَدَيُّنُهُمْ تَدَيُّنَنَا حَالَ قِيَامِ الْحَرْبِ وَانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ كَمَا جَعَلَ كَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَقِّ الْأَنْكِحَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِثْمِ فَإِنَّ الْبَاغِيَ يَأْثَمُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ وَالْخُرُوجُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ أَبَدًا وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعِبَادِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَإِنَّمَا وَجَبَ شَرْعًا فَلَا يَجِبُ إلَّا بِعِلْمِ الْخِطَابِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ. وَبِخِلَافِ الْبَاغِي الَّذِي لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّبْلِيغِ وَهُوَ الْمَنَعَةُ لَمْ يَتَحَقَّقُ فَكَانَ جَهْلُهُ بِالْحُجَّةِ بِسَبَبِ تَعَنُّتِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْحُجَّةِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّعَنُّتِ فَصَارَ الْعَدَمُ بِهِ كَأَنْ لَا عَدَمَ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
وَهَذَا إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا لَا نَمْلِكُ مَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ أُفْتِي فِي أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ نُفْتِي بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَلَا نُفْتِي أَهْلَ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْحُكْمِ اجْتِمَاعُ التَّأْوِيلِ وَالْمَنَعَةِ فَإِذَا تَجَرَّدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُصَابِ حَتَّى لَوْ أَنَّ قَوْمًا غَيْرَ مُتَأَوِّلِينَ غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا الْأَنْفُسَ وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ أَخَذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِتَجَرُّدِ الْمَنَعَةِ عَنْ التَّأْوِيلِ.
قَوْلُهُ (وَوَجَبَتْ الْمُجَاهَدَةُ لِمُحَارَبَتِهِمْ) أَيْ لِأَجْلِ مُحَارَبَتِهِمْ يَعْنِي إنَّمَا وَجَبَتْ مُقَاتَلَتُهُمْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَا أَنْ تَجِبَ ابْتِدَاءً كَمَا تَجِبُ مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِلْخَوَارِجِ فِي خُطْبَتِهِ وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا يَعْنِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute