للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى رَمْيِ صَيْدٍ فَرَمَاهُ فَأَصَابَ إنْسَانًا أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلِفِ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِحُرْمَةِ هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْمُكْرِهِ ابْتِدَاءً وَهَذِهِ نِسْبَةٌ ثَبَتَتْ شَرْعًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا كَالْأَمْرِ فَإِنَّهُ مَتَى صَحَّ اسْتَقَامَ نَقْلُ الْجِنَايَةِ بِهِ أَيْضًا كَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ إشْكَالٍ قَدْ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْقَاتِلُ لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الْأَمْرِ

ــ

[كشف الأسرار]

اخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فَلَزِمَ الْمُكْرَهَ حُكْمُ الْفِعْلِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ ابْتِدَاءً وَخَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ الْوَسَطِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْفِعْلِ مِنْ قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُكْرَهِ فَلَعَلَّ الْمَقْتُولَ مِنْ أَخَصِّ أَصْدِقَائِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لَهُ.

وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِصَيْرُورَةِ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إنَّ الْمُكْرَهَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ يَبْقَى مُخَاطَبًا فَلِبَقَائِهِ مُخَاطَبًا كَانَ عَلَيْهِ إثْمُ الْقَتْلِ وَلِفَسَادِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَلَا يَدُلُّ لُزُومُ الْإِثْمِ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا كَانَ آثِمًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْقَطْعِ بَلْ فِي الْحُكْمِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَ بِنَفْسِهِ كَذَا هُنَا وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبَاشِرٌ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ سِوَى الْقَوَدِ نَحْوَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ تَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَا الْقَوَدُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: ٤] فَقَدْ نُسِبَ الْفِعْلُ إلَى اللَّعِينِ وَهُوَ مَا كَانَ يُبَاشِرُ صُورَتَهُ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا يَأْمُرُ بِهِ وَأَمْرُهُ إكْرَاهٌ.

قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا كَذَا وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلِفِ وَالْإِتْلَافُ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِأَجْلِ حُرْمَةِ هَذَا الْمَحَلِّ يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ لِيَقْتَصِرَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَلْ تَثْبُتُ لِاحْتِرَامِ الْمَحَلِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَحَلَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا لَمَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ وَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةٍ فِي الْمَحَلِّ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ كَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ جُعِلَ آلَةً فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ وَإِتْلَافُ الْمَحَلِّ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا وَجَبَتْ لِمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا لَا لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَصْلُحُ الْمُكْرَهُ أَنْ يَصِيرَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَقَتْلِ النَّفْسِ إتْلَافُ الْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْمُكْرَهِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْإِتْلَافِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَاشِرَ وَالْمُسَبِّبَ إنْ اجْتَمَعَنَا فِي الْإِتْلَافِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُسَبِّبِ لَمَّا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَالِ عَلَى الْمُكْرَهِ عُلِمَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ شَرْعًا وَلَا طَرِيقَ لِلنِّسْبَةِ سِوَى جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ.

فَإِنْ قِيلَ نَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ فِي الْإِتْلَافِ بَلْ الْمُتْلِفَ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَلَا أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَذَا الْقَاتِلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ بِالْقِصَاصِ لَا يُتَصَوَّرُ قُلْنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَمَا رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَاسِدٌ فَلَا يُجْعَلُ مُسْتَعْمِلًا إيَّاهُ لِيَرْجِعَ بِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ بِحُكْمِ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لَا بِحُكْمِ الْآمِرِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ.

قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الْإِكْرَاهُ فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ مِثْلُ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَتَى صَحَّ بِأَنْ صَدَرَ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ شَرْعًا اسْتَقَامَ نَقْلُ الْجِنَايَةِ إلَى الْآمِرِ أَيْضًا كَمَا اسْتَقَامَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ كَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ وَهُوَ سَعَةٌ أَمَامَ الْبُيُوتِ اخْتَصَّ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَسْرُ الْحَطَبِ وَإِيقَافُ الدَّابَّةِ وَإِلْقَاءُ الْكُنَاسَةِ فِيهِ وَذَلِكَ الْفِنَاءُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْفِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ كَانَ الضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يَفْدِي كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَأَمْرِ الْعَبْدِ إذَا اسْتَأْجَرَ حُرًّا لِلْحَفْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ اسْتَعَانَ بِالْحُرِّ عَلَى الْحَفْرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مَلَكَهُ أَمْ لَا فَإِنَّ ضَمَانَ مَا يَعْطَبُ بِهِ أَيْ بِالْحَفْرِ أَوْ بِالْمَحْفُورِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ أَوْ الْمُعَيِّنِ؛ لِأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>