للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْقُطُ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَمِثْلُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّهُ رُخِّصَ فِيهِ بِالنَّصِّ فِي قِصَّةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبَقِيَ الْكُفْرُ عَزِيمَةً بِحَدِيثِ خُبَيْبٍ وَذَلِكَ أَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَفِي هَتْكِ الظَّاهِرِ مَعَ قَرَارِ الْقَلْبِ ضَرْبُ جِنَايَةٍ لَكِنَّهُ دُونَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هَتْكٌ صُورَةً وَهَذَا هَتْكٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَوَجَبَتْ الرُّخْصَةُ وَبَقِيَ الْكَفُّ عَنْهُ عَزِيمَةً لِبَقَاءِ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا فَإِذَا صَبَرَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ شَهِيدًا وَإِذَا أَجْرَى فَقَدْ تَرَخَّصَ بِالْأَدْنَى صِيَانَةً لِلْأَعْلَى وَكَذَلِكَ هَذَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ إفْسَادِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ فِي اسْتِهْلَاكِ أَمْوَالِ النَّاسِ يُرَخَّصُ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ التَّامِّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُجْعَلَ وِقَايَةً لَهَا وَلَكِنَّ أَخْذَ الْمَالِ وَإِتْلَافَهُ ظُلْمٌ وَعِصْمَةُ صَاحِبِهِ فِيهِ قَائِمَةٌ فَبَقِيَ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ لِبَقَاءِ دَلِيلِهِ وَالرُّخْصَةُ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَلِإِقَامَةِ حَقٍّ مُحْتَرَمٍ فَصَارَ شَهِيدًا.

ــ

[كشف الأسرار]

الْخَمْرَ لَمْ يُحَدَّ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ فَالْمُكْرَهُ بِالْحَبْسِ كَذَلِكَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَكَامَلَ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا أَوْجَبَ الْحِلَّ فَإِذَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهُ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فِي الْجُزْءِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِوَطْئِهَا فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ قِيَامُ الْإِكْرَاهِ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَمَّ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُكْرَهِ قَتْلُ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا.

لَكِنَّهُ أَيْ الْقَتْلَ يَنْتَقِلُ بِهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ فَإِذَا قَصَّرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ وَلَا فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاتِلِ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ مِنْ الْحُرُمَاتِ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَمِثْلُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بِشَرْطِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا أَيْ الْإِجْرَاءَ عَلَى اللِّسَانِ ظُلْمٌ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْكُفْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْكَافِرَ ظَالِمًا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ رَخَّصَ فِي الْإِجْزَاءِ بِالنَّصِّ فِي قِصَّةِ عَمَّارٍ وَقَدْ بَيَّنَّا قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ حُرْمَتَهُ أَنَّ حُرْمَةَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ وَاجِبٌ عَلَى الْعِبَادِ إلَى الْأَبَدِ وَهُوَ اعْتِقَادُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْرَارُ بِهَا بِاللِّسَانِ.

وَالْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ دَائِمًا إلَى الْأَبَدِ لَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ بِالْإِكْرَاهِ بَلْ بَقِيَ حَرَامًا مَعَ الْإِكْرَاهِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ التَّوْحِيدِ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافٍ لِتَمَامِ الْإِيمَانِ وَمَا بَعْدَهَا دَوَامٌ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبِالْإِجْرَاءِ يَفُوتُ الدَّوَامُ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ لِبَقَاءِ الطُّمَأْنِينَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِجْرَاءُ كُفْرًا صُورَةً كَانَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ حَرَامٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يَفُوتُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ صُورَةً وَمَعْنًى فَاجْتَمَعَ هَاهُنَا حَقَّانِ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ فَتَرَجَّحَ حَقُّهُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ اسْتَوَى الْحَقَّانِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ وَغَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَيْفَ إذَا تَرَجَّحَ حَقُّهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَفُتْ مَعْنًى فَلِهَذَا رُخِّصَ لَهُ الْإِقْدَامُ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ.

لَكِنَّهُ الضَّمِيرُ لِلضَّرْبِ دُونَ الْقَتْلِ هُوَ مَصْدَرُ قَتَلَ لَا مَصْدَرُ قَتَّلَ أَيْ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ وَكَوْنُهُ جِنَايَةً عَلَى حَقِّهِ دُونَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَفِي الْأُولَى فَوَاتُ الصُّورَةِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْإِجْرَاءُ وَهَذَا أَيْ الْقَتْلُ فَكَانَ شَهِيدًا لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ «الْمُخَيَّرَ فِي نَفْسِهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ أَبَى الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ» وَلِحَدِيثِ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ وَكَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِمَا فِيهِ الْإِلْجَاءُ عَلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى تَرْكِهَا أَوْ عَلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ وَهُوَ مُقِيمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ أَصْلًا وَحَقُّ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَفُوتُ إلَى خَلَفٍ فَإِنْ صَبَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ وَفِيمَا فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِفْطَارِ مُسَافِرًا فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ أَيَّامَ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَلَيَالِيِهِ وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَكُونُ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>