للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُوجِبُ إبَاحَتَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ إلَّا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩] قَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ فِي الْأَصْلِ يَثْبُتُ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ خَارِجَةً عَنْ التَّحْرِيمِ فَيَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ كَاَلَّذِي لَا يَضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ يَرَى أَنَّ رِفْقَ التَّحْرِيمِ يَعُودُ إلَى الْمُتَنَاوَلِ مِنْ خُبْثٍ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] .

وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧] فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى فَوْتِ الْكُلِّ كَانَ فَوْتُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ فَوْتِ الْكُلِّ عَلَى مِثَالِ قَوْلِنَا لَنَقْطَعَنَّ يَدَك أَنْتَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ نَحْنُ فَإِذَا سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ أَصْلًا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ مُضَيِّعًا لِدَمِهِ فَصَارَ آثِمًا وَهَذَا إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ فَأَمَّا إذَا قَصُرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَنَاوَلَ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَكَامَلَ أَوْجَبَ الْحِلَّ فَإِذَا قَصُرَ صَارَ شُبْهَةً بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْحَبْسِ إذَا قَتَلَ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَمْ يَحِلَّ لَكِنَّهُ انْتَقَلَ عَنْهُ فَإِذَا قَصُرَ لَمْ يَنْتَقِلْ وَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً.

ــ

[كشف الأسرار]

الْكُلِّ أَوْلَى مِنْ إتْلَافِ الْكُلِّ كَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا الْمُكْرَهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ؛

لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآكِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ كَحُرْمَةِ الطَّرَفِ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا تَحَرَّزَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَقَالَ هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَدُ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ أَيْ نَفْسُ الْغَيْرِ أَوْ نَفْسُ الْمُكْرَهِ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ فُلَانٍ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَقْتُلَنَّ فُلَانًا أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ لِطَرَفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ.

أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَ الْغَيْرِ لِيَأْكُلَهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَيَتَحَقَّقَ التَّعَارُضُ فَلَا يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ إلَّا أَنَّ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِهِ جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ مُقَابَلَةُ طَرَفِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَشَدُّ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ قَتْلِ الْمُكْرَهِ بَلْ مَنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَوَاتُ طَرَفِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُمَا فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ

وَلَا يُقَالُ الْأَطْرَافُ مُلْحَقَةٌ بِالْأَمْوَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي قَطْعِ يَدِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ كَمَا رُخِّصَ فِي إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إلْحَاقُ الطَّرَفِ بِالْمَالِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَبْذُلُونَ أَطْرَافَهُمْ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْغَيْرِ وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ فِي إتْلَافِ الْمَالِ ثُبُوتُهَا فِي إتْلَافِ طَرَفِهِ.

قَوْلُهُ (يُوجِبُ إبَاحَتَهُ) أَيْ إبَاحَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ اللَّهُ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩] اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ إذَا الْكَلَامُ صَارَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] نَفَى الْإِثْمَ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْحُرْمَةِ عَنْ الْمُضْطَرِّ فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ كَاَلَّذِي يُضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ يُبَاحُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ مُلْجِئًا وَمَا لَا فَلَا وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ التَّنَاوُلِ يَخَافُ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَمَتَى أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِقَطْعِ الْعُضْوِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ الْمُبِيحَةُ لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّصِّ.

فَصَارَ آثِمًا يَعْنِي إذَا كَانَ عَالِمًا بِسُقُوطِ الْحُرْمَةِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ يُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إقَامَةَ حَقِّ الشَّرْعِ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فِي زَعْمِهِ

وَهَذَا لِأَنَّ انْكِشَافَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَدَلِيلُهُ خَفِيٌّ فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُصُولِ الْخِطَابِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَهِرَ يُجْعَلُ عُذْرًا فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا أَيْ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا.

فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ سَنَةً أَوْ بِالْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ أَوْ بِالْقَيْدِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْنَعُ عَنْهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إذْ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ يُوجِبُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ وَلَا عُضْوٍ وَلَا يَسَعُهُ تَنَاوُلُ الْحَرَامِ لِدَفْعِ الْحُزْنِ، أَلَا يُرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِشُرْبِهَا دَفْعَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ بِالْحَبْسِ لَتَحَقَّقَ بِحَبْسِ يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخ بَلْخٍ إنَّمَا أَجَابَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْحَبْسِ فِي زَمَانِهِ فَأَمَّا الْحَبْسُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ يُبِيحُ التَّنَاوُلَ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْبَسُونَ تَعْذِيبًا كَذَا فِي الْمُغْنِي إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الْقَاصِرِ إذَا تَنَاوَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِأَنْ شَرِبَ

<<  <  ج: ص:  >  >>