وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيمَنْ أَدَّى فِي الزَّكَاةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زُيُوفًا عَنْ خَمْسَةِ جِيَادٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا يَسْتَقِيمُ أَدَاؤُهَا بِمِثْلِهَا صُورَةً وَلَا بِمِثْلِهَا قِيمَةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فَسَقَطَ أَصَلًا وَاحْتَاطَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ الْبَابِ فَأَوْجَبَ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ لَا يُقْضَى وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَاتٍ وَالْأُضْحِيَّةَ
ــ
[كشف الأسرار]
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ يَسْقُطُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا فِي الزَّكَاةِ مَكَانَ خَمْسَةٍ جِيَادٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: ٢٦٧] ، الْآيَةَ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ صَحَّ وَلَزِمَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ لِصَيْرُورَتِهِ صَدَقَةً وَلَيْسَ لِلْوَصْفِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْفَوَاتُ مُنْفَرِدًا مِثْلٌ صُورَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا فَيَسْقُطُ أَصْلًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى أَرْبَعَةً جِيَادًا عَنْ خَمْسَةِ زُيُوفٍ لَا يَصِحُّ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَقِيمَتُهُ لِصِيَاغَتِهِ مِائَتَانِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِهِ مَنْ قَالَ سُقُوطُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ لِلرِّبَا وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَامَلَ عِبَادَهُ مُعَامَلَةَ الْمُكَاتَبِينَ أَوْ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْرَضَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ وَالرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ.
أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الرِّبَا أَفَيُقْبَلُ مِنْكُمْ» ، وَاحْتَاطَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَيْ بَابِ الْعِبَادَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهَا تَتَقَوَّمُ فِي الْغُصُوبِ وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ حَتَّى لَوْ حَابَى بِهَا بِأَنْ بَاعَ قَلْبًا وَزْنُهُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ لَمْ تُسَلَّمْ الْمُحَابَّات لِلْمُشْتَرِي وَكَذَا فِي تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ حَتَّى لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا جَيِّدًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِدِرْهَمٍ رَدِيءٍ لَا يَجُوزُ، وَغَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا وَهُوَ تَغَيُّرُ السِّعْرِ إلَى الزِّيَادَةِ اُعْتُبِرَ فِي ضَمَانِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَقًّا قِيلَ إنَّ مَنْ أَخَذَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَأَخْرَجَهُ ثُمَّ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ إلَى زِيَادَةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ احْتِيَاطًا فَهَذَا أَوْلَى كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ.
١ -
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ أَنَّ الْجَوْدَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ فِي حُكْمِ الرِّبَا فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ لِيَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدِ كَالْوَارِثِ وَالصَّغِيرِ فَلَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَجْهٌ دُونَ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْفَقِيرَ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْغَنِيِّ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ إذْ قَدْرُ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْأَخْذِ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلْفَقِيرِ حَتَّى يَصِيرَ مُمَلِّكًا إيَّاهُ صَاحِبَ الْمَالِ بِمَا يَأْخُذُ بَلْ يَأْخُذُ صِلَةً لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْوَاجِبِ حَقُّ الْفَقِيرِ إنْ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُ حَتَّى صَارَ صَاحِبُ الْمَالِ ضَامِنًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالْحَقُّ مُلْحَقٌ بِالْحَقِيقَةِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا الْوَاجِبَ مِنْهُ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قُلْنَا مَتَى كَانَ فِي اعْتِبَارِ جِهَةِ الرِّبَا مَنْفَعَةٌ لِلْفَقِيرِ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ كَمَا إذَا أَدَّى أَرْبَعَةً جِيَادًا عَنْ خَمْسَةٍ زُيُوفٍ لَا يَجُوزُ وَمَتَى كَانَ فِي اعْتِبَارِ الرِّبَا ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ لَا يُعْتَبَرُ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ لَا يُسَلِّمُ الدَّرَاهِمَ الزَّائِدَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِعَدَمِ الْمِثْلِ عَقْلًا وَنَصًّا قُلْنَا إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَأَخَوَاتِهِ لَا يُقْضَى (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ الدَّمَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تَرْكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute