وَكَذَلِكَ السُّورَةُ، فَإِذَا فَاتَتْ عَنْ أُولَيَيْنِ وَجَبَتْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقِرَاءَةِ جُمْلَةُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ وَقَدْ بَقِيَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي شُبْهَةُ كَوْنِهِ مَحَلًّا وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِفَائِتٍ فَوَجَبَ أَدَاؤُهَا اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ قَضَاءً فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ إنَّمَا شُرِعَ احْتِيَاطًا فَلَمْ يَسْتَقِمْ صَرْفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي وَقْتِهِ كَانَ بِدْعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَا يَقْضِي.
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا يَذْكُرُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ السُّورَةُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ تُقْضَى فِي الرُّكُوعِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ السُّورَةُ) إذَا فَاتَتْ عَنْ الْأُولَيَيْنِ يُؤْتَى بِهَا فِي الْآخِرَيْنِ لِشَبَهِهِ الْأَدَاءَ وَإِنْ كَانَتْ قَضَاءً ظَاهِرًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقِرَاءَةِ جُمْلَةُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: ٢٠] .
إذْ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ لَكِنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ لِلْقِرَاءَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةٌ فِي الْآخِرَيْنِ أَيْ تَنُوبُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا كَمَا يُقَالُ لِسَانُ الْوَزِيرِ لِسَانُ الْأَمِيرِ وَقَدْ تَعَيَّنَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَفِي الْآخِرَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» كَذَا فِي مَبْسُوطِ الشَّيْخِ فَبَقِيَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي شُبْهَةُ كَوْنِهِ مَحَلًّا؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْآخِرَيْنِ مِثْلُ الْقِيَامِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي كَوْنِهِ رُكْنَ الصَّلَاةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُعَيَّنِ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَوَاتُ فَوَجَبَ أَدَاؤُهَا اعْتِبَارًا بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ قَضَاءٌ بِالنَّظَرِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَمَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْآخِرَيْنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَيَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ قَضَاءُ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْفَاتِحَةِ فِي الْوُجُوبِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ آكَدُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ السُّورَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ لِشَرْعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي الْآخِرَيْنِ نَفْلًا كَانَ أَوْلَى، فَقَوْلُهُ وَلِهَذَا جَوَابٌ عَنْهُ أَيْ وَلِكَوْنِ قَضَاءِ السُّورَةِ لِشَبَهِهِ الْأَدَاءَ لَا لِمَعْنَى الْقَضَاءِ قُلْنَا: لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْأَدَاءِ كَمَا لَا يُمْكِنُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقَضَاءِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لَهُ قِرَاءَتُهَا فِي الْآخَرَيْنِ نَفْلًا ابْتِدَاءً حَقًّا لَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا شُرِعَتْ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ أَدَاءً عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، فَلَمَّا كَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِهَذِهِ الْجِهَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ صَرْفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَغْيِيرًا لِلْمَشْرُوعِ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وِلَايَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الْآخِرَيْنِ لَيْسَتْ بِنَفْلٍ مُطْلَقٍ بَلْ فِيهِ جِهَةُ الْوُجُوبِ نَظَرًا إلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ صَرْفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْأَدَاءُ فَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ شُرِعَتْ فِي الْآخِرَيْنِ أَدَاءً فَإِنْ قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَعَتْ عَنْ الْوَاجِبِ أَوْ الْمَسْنُونِ الَّذِي فِيهِ جِهَةُ الْوُجُوبِ وَإِنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ كَانَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلِذَلِكَ تَسْقُطُ، وَلَا يُقَالُ: لَمَّا انْتَقَلَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْقَ تَكْرَارًا مَعْنًى، لِأَنَّا نَقُولُ يَبْقَى صُورَةً وَرِعَايَةُ الصُّورَةِ وَاجِبَةٌ أَيْضًا وَلِأَنَّ النَّفَلَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَضَاءِ وَكَلَامُنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْأَدَاءِ، وَقَوْلُهُ وَالسُّورَةُ لَمْ تَجِبْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute