للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَا بَلْ يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ تَحْقِيقٌ لِمُوجِبِ الْقَطْعِ فَصَارَ أَمْرُ الْجِنَايَةِ يَئُولُ إلَى الْقَتْلِ، وَقُلْنَا هَذَا هَكَذَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ فِي بَابِ جَزَاءِ الْفِعْلِ فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ قَدْ يَصْلُحُ مَاحِيًا أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا؛ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ صَالِحَةٌ لِلْحُكْمِ فَوْقَ الْأَوَّلِ فَخَيَّرْنَاهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.

وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمِثْلِيَّ بِالْقِيمَةِ إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ إلَّا يَوْمَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ الْقَاصِرَ لَا يَصِيرُ مَشْرُوعًا مَعَ احْتِمَالِ الْأَصْلِ وَلَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ

ــ

[كشف الأسرار]

الشَّرْعِ عَلَيْنَا، وَقَالَا بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى السِّرَايَةِ فَإِذَا سَرَى سَقَطَ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَتْلًا وَالْفِعْلُ الثَّانِي هَهُنَا إتْمَامٌ لِمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَتَحْقِيقٌ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ بِعَيْنِهِ فَكَانَا جِنَايَةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالْبُرْءِ فَيَكُونُ الثَّانِيَةُ إنْشَاءَ جِنَايَةٍ أُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا خَطَأَيْنِ وَتَخَلَّلَ بُرْءٌ بَيْنَهُمَا تَجِبُ دِيَةٌ وَنِصْفٌ كَمَا لَوْ حَلَّا بِشَخْصَيْنِ.

وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى أَنْ يَصِيرَ بِالسِّرَايَةِ فِعْلًا مُضَافًا إلَى شَخْصٍ آخَرَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ الْمُوجِبُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ أَوْ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَإِيضَاحُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَا هَهُنَا وَقُلْنَا هَذَا أَيْ الْقَتْلُ بَعْدَ الْقَطْعِ قَبْلَ الْبُرْءِ، هَكَذَا أَيْ تَحْقِيقٌ لِمُوجِبِ الْقَطْعِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَكَانَا جِنَايَةً وَاحِدَةً وَلَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْمَقْصُودِ فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدِّدٌ.

وَقَوْلُهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الْفِعْلِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَقْتُلُ نُفُوسًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِتَعَدُّدِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ بَدَلُ الْفَائِتِ فَإِنَّ جَمَاعَةً لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا خَطَأً لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَهُنَا قَدْ تَعَدَّدَ الْفِعْلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْجَزَاءُ، قَوْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ مَاحِيًا أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ إتْمَامًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ فَكَذَلِكَ يَصْلُحُ مَاحِيًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلسِّرَايَةِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ وَالْقَتْلُ بِنَفْسِهِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْحُكْمِ وَهُوَ إزْهَاقُ الرُّوحِ فَوْقَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَدٍّ إلَى الْإِزْهَاقِ لَا مَحَالَةَ بَلْ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُهُ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْقَتْلِ ابْتِدَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْقَاطِعِ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ مُحَقِّقًا لَا مَحَالَةَ لَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: ٣] ، جَعَلَ الذَّكَاةَ قَاطِعَةً لِلسِّرَايَةِ وَإِلَّا لَمَا حَلَّ الْمُذَكَّى بَعْدَ جَرْحِ السَّبُعِ.

وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا رَمَى إلَى صَيْدٍ تَارِكًا لِلتَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَجَرَحَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ وَذَكَّاهُ حَلَّ فَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يَصْلُحُ مَاحِيًا كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا فَلِهَذَا خَيَّرْنَاهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.

قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَصْلًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَابِقًا عَلَى الْقَاصِرِ قُلْنَا إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ وَقْتَ الْقَضَاءِ إذْ الْمِثْلُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَهُ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ إلَى مَجِيءٍ أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ وَذَلِكَ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ أَوْ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمِثْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَدَاءِ الْمِثْلِ بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>