وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدِّيَةُ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدْرِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُهْدَرَ بَلْ حَسَنًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يُضْمَنُ بِالشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَبِقَتْلِ الْمَنْكُوحَةِ وَبِرِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ أَتْلَفَهُ قَصْدًا إلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ ضَرُورِيٌّ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ مِنْ حَيْثُ تَطَرُّقُهُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْمَمْلُوكِ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ الْمَحَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَتْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ.
، وَلَنَا أَنَّ الْمُتْلَفَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يُضْمَنُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ مِلْكُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَمِلْكُ حَيَاتِهِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْعِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ مِثْلًا إلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ فِي الصُّلْحِ الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الصُّلْحِ لِإِبْقَاءِ نَفْسِهِ وَحَاجَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدِّيَةُ) جَوَابٌ عَنْ الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ لِلْخَصْمِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِصِيَانَةِ الدَّمِ عَنْ الْهَدْرِ وَإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَمَا فِي الشَّهَادَةِ إرَاقَةُ دَمٍ لِيُصَانَ بِالضَّمَانِ بَلْ فِيهَا إبْطَالُ مِلْكِ الْقِصَاصِ بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ إهْدَارُهُ جَائِزًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ الْعَفْوُ بَلْ حَسَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: ٤٣] .
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ حُكْمًا وَفِي الْعَفْوِ حَيَاةٌ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ لِمَعْنَى الصِّيَانَةِ وَصَارَ كَأَنَّ الشُّهُودَ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِفِعْلٍ مَنْدُوبٍ وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِهْدَارِ هَهُنَا عَدَمُ إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ) مُتَقَوِّمٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ قُلْنَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ مَهْرَ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مَنْكُوحَةَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْ الْقَاتِلُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ.
، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَغْرَمْ لِلزَّوْجِ شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَيْهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَضْمَنُ لِلزَّوْجِ شَيْئًا وَقَدْ فَوَّتَتْ عَلَيْهِ الْمِلْكَ بِالرِّدَّةِ كَمَا فَوَّتَ الشَّاهِدُ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الِاعْتِقَادِ لَا فِي النِّكَاحِ قَصْدًا وَالشَّاهِدُ أَتْلَفَ بِالشَّهَادَةِ قَصْدًا، فَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ قَوْلَيْنِ، وَذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ إنْ وُجِدَتْ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ مَهْرُهَا بِالدُّخُولِ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ وُجِدَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ نُظِرَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ سَقَطَ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَإِنْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الزَّوْجِ ثُبُوتًا فَيَكُونُ مُتَقَوِّمًا عَلَيْهِ زَوَالًا؛ لِأَنَّ الزَّائِلَ عَيْنُ الثَّابِتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ تَقَوُّمِهِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ تَقَوُّمُهُ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى كَمِلْكِ الْيَمِينِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يَجُوزُ اكْتِسَابُهُ بِلَا بَدَلٍ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَهْرٍ وَيَجِبُ بِالْفَاسِدِ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ يَجُوزُ وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا لَا يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا بِالْعَقْدِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا الْمُعَاوَضَةُ لِإِقَامَةِ الْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِ مُقَامَ أَصْلِ الْقِيمَةِ بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute