للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

تَصَرُّفٌ فِي عِبَادِهِ وَمَمَالِيكِهِ فَيَجُوزُ سَوَاءٌ أَطَاقَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يُطِقْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ التَّكْلِيفِ إمَّا أَنْ كَانَ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي ذَاتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَصَوُّرِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُمْتَنِعِ لِلْعَبْدِ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقُبْحَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ وَالْقَدِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْغَرَضِ، وَتَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ يُعَدُّ سَفَهًا فِي الشَّاهِدِ كَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِالنَّظَرِ فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى الْحَكِيمِ جَلَّ جَلَالُهُ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ هِيَ الِابْتِلَاءُ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يَتْرُكُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ مَعْذُورًا فِي الِامْتِنَاعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَيُعْرَفُ بَاقِي الْكَلَامِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ هَهُنَا مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا يُوهِمُ بِظَاهِرِهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُونِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ الْمُكْنَةَ الْأَصْلِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] وَالْمَيْسَرَةُ مَشْرُوطَةٌ فِي بَعْضِهَا تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مُكْنَةَ الْعَبْدِ مِنْهُ حِكْمَةً وَعَدْلًا يُشِيرُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ إعْطَاءَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهَا أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ تَشْرِيفٌ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَمِنَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلَحِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا وَبِنَاءُ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَاشْتِرَاطُهَا لَهُ فِيهِ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ وَهَذَا كَاشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ الْخِطَابِ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَبِيحٌ وَخَلْقُ الْعَقْلِ فِي الْإِنْسَانِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ لَا لِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَخَلْقِهَا فِي الْمُكَلَّفِ فَالْأَوْجَهُ أَنْ تُصْرَفَ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَهَذَا فَضْلٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ دُونَ إعْطَائِهَا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُوجَدُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَسْبِقْ الْفِعْلَ وَلَا بُدَّ لِلتَّكْلِيفِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ نُقِلَ الْحُكْمُ عَنْهَا إلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْدُثُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ بِهَا عِنْدَ إرَادَةِ الْفِعْلِ عَادَةً فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِقَبُولِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ بِهَا لَا مَحَالَةَ، فَاشْتِرَاطُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ مَعَ أَنَّ التَّكْلِيفَ صَحِيحٌ بِدُونِهَا بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ وُجُودِ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عِنْدَ الْفِعْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ.

وَعَلَيْهِ دَلَّ سِيَاقُ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْأَدَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا وَقْتَ الْأَمْرِ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْقُدْرَةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالْمَوْجُودِ مِنْهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ وَعَدَمُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَمْرِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>