. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
الضَّمِيرُ فِي أَصْلِهِ وَوَصْفِهِ رَاجِعًا إلَى التَّرْكِ أَيْ تَرْكِ الْمُتَنَاوِلِ أَصْلُهُ طَاعَةٌ وَوَصْفُهُ مَعْصِيَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الصَّوْمِ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الضِّيَافَةِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالصَّوْمِ وَصْفًا فَفَسَدَ الصَّوْمُ بِهِ وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخَيْنِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاعْتَرَضَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَالَ النَّهْيُ وَرَدَ عَنْ عَيْنِ الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَصُومُوا فَصَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ النَّهْيُ وَرَدَ لِمَعْنَى تَرْكِ الْإِجَابَةِ فَفِيهِ اعْتِرَاضَاتٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ الصَّوْمِ بَلْ هُوَ عَيْنُ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ هُوَ بِعَيْنِهِ تَرْكٌ لِصَاحِبِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ كَالْحَرَكَةِ مَعَ السُّكُونِ فَإِنَّ التَّحَرُّكَ هُوَ تَرْكُ السُّكُونِ وَالسُّكُونَ تَرْكُ التَّحَرُّكِ بِعَيْنِهِ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ فِعْلٌ آخَرُ يَكُونُ تَرْكًا لِأَنَّ التَّحَرُّكَ مُنَافٍ لِلسُّكُونِ وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ إثْبَاتِ فِعْلٍ آخَرَ لَمْ يَقْصِدْ الْفَاعِلُ فِعْلَهُ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِ مُبَاشَرَتُهُ وَلَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ لِنَفْيِ هَذَا الضِّدِّ وَلَوْ جَازَ إثْبَاتُ فِعْلٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْجُودَ كَافٍ لَنَفْي ضِدِّهِ لَأَمْكَنَ إثْبَاتُ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْفِعْلِ تَرْكًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَرْكٍ لِمَا هُوَ آخِذٌ لَهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَوْ كَانَ آخِذًا لِمَا هُوَ تَارِكٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَرْكٌ لِجَمِيعِ أَضْدَادِهِ فَالْقِيَامُ تَرْكُ الْقُعُودِ وَالِاتِّكَاءِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَالْإِسْلَامُ تَرْكٌ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَجَمِيعِ الْأَدْيَانِ ثُمَّ الصَّوْمُ ضِدٌّ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَلِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ بِنَفْسِهِ تَرْكًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلصَّوْمِ غَيْرٌ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الْإِجَابَةِ نَهْيًا عَنْ عَيْنِ الصَّوْمِ.
وَقَوْلُهُمْ لَا بَلْ هُوَ غَيْرُهُ لِتَصَوُّرِ الصَّوْمِ بِدُونِ التَّرْكِ وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْمُغَايَرَةِ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَرْطِ الْمُغَايَرَةِ لِيَتَّضِحَ عَوَارُ هَذَا الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ دُونَ الْجِنْسِ فَإِنْ تُصُوِّرَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ صَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ جِنْسِهِمَا كَجَوْهَرٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَعْرَاضِهِ الْمُعَيَّنَةِ مُتَغَايِرَانِ لِجَوَازِ وُجُودِهِمَا مَعَ عَدَمِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ جِنْسِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مُسْتَحِيلًا لِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّي الْجَوَاهِرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْأَعْرَاضِ بِأَنْفُسِهَا دُونَ جَوْهَرٍ وَعَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْعَرَضِيَّةُ مَعَ الْوُجُودِ فِي عَرَضٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَا بِمُتَغَايِرِينَ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُ مَعْنَى الْعَرَضِيَّةِ مَعَ ثُبُوتِ الْوُجُودِ وَلَا عَدَمُ الْوُجُودِ مَعَ تَقَرُّرِ الْعَرَضِيَّةِ فَكَانَ الْعَرَضُ شَيْئًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ مَعْنَى الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَى الْعَرَضِيَّةِ فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِعَرَضٍ وَكَذَا الْجَوْهَرِيَّةُ مَعَ الْوُجُودِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَكَذَا اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَهُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُتَّحِدُ الذَّاتِ وَإِنْ كَانَ الْوُجُودُ فِي الْجُمْلَةِ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ الْقِيَامِ بِالذَّاتِ.
ثُمَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّ تَرْكَ الْإِجَابَةِ وَتَرْكَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهَا عَنْ الْآخَرِ، فَمَنْ اعْتَبَرَ الْعَيْنَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْجِنْسِ وَجَعَلَ جَوَازَ الِانْفِكَاكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute