قِيلَ لَهُ أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ عَمِلَا بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ وَعُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ فِي الْعَادَةِ اسْمٌ لِمَا فِي بَاطِنِهَا وَمَنْ أَكَلَهَا أَوْ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا فَقَدْ أَكَلَ مَا فِيهَا وَالشُّرْبُ مِنْ الْفُرَاتِ مَجَازٌ لِلشُّرْبِ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُجَاوِرُ الْفُرَاتَ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَهَذِهِ النِّسْبَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالْأَوَانِي لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَامِعِ فَصَارَ ذَلِكَ عَمَلًا بِعُمُومِهِ لَا جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
ــ
[كشف الأسرار]
حَقِيقَةً لِعَدَمِ تَوَقُّفِ ثُبُوتِهِ بِهِ عَلَى قَرِينَةٍ كَمَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَلِلْيَمِينِ مَجَازٌ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا بِهِ عَلَى قَرِينَةٍ وَهِيَ النِّيَّةُ وَالتَّوَقُّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَجَازِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلَائِلِ فَيَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَتَسْقُطُ الْحَقِيقَةُ بِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. وَرَجَبٌ مُنْصَرِفٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْعَلَمِيَّةُ وَفِي الْحَدِيثِ. «إنَّ رَجَبًا شَهْرٌ عَظِيمٌ» . إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ جَعَلَهُ هَهُنَا غَيْرَ مُنْصَرِفٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ هُوَ الرَّجَبُ الَّذِي يَتَعَقَّبُ الْيَمِينَ لَا رَجَبٌ مِنْهُمْ فَكَانَ مَعْدُولًا عَنْ الرَّجَبِ الْمَعْرُوفِ بِالْأُمِّ فَلَا يَنْصَرِفُ لِاجْتِمَاعِ الْعَدْلِ وَالْعَلَمِيَّةِ كَمَا فِي سَحَرَ إذَا أَرَدْت سَحَرَ يَوْمِك عَلَى مَا عُرِفَ.
قَوْلُهُ (أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَدْ عَمِلَا بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ وَعُمُومِهِ) إذَا كَانَ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ فَالْعَمَلُ بِالْمَجَازِ أَوْلَى عِنْدَهُمَا وَسَتَعْرِفُ السِّرَّ فِيهِ. ثُمَّ لِلْمَجَازِ هَهُنَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنْ يُجْعَلَ أَكْلُ الْحِنْطَةِ عِبَارَةً عَنْ أَكْلِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا ذُكِرَتْ مَقْرُونَةً بِالْأَكْلِ يُرَادُ بِهَا فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنْ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ يُقَالُ أَكَلْنَا أَجْوَدَ حِنْطَةٍ فِي أَرْضِ كَذَا أَيْ أَجْوَدَ خُبْزٍ وَيُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ الْحِنْطَةَ أَيْ خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهَا وَمُطْلَقُ الِاسْمِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُمْكِنٌ الْعَمَلُ بِهَا كَمَا فِي وَضْعِ الْقَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا آكُلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْعَيْنِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُجْعَلَ أَكْلُ الْحِنْطَةِ عِبَارَةً عَنْ أَكْلِ مَا فِيهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ يُقَالُ أَهْلُ بَلَدِ كَذَا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيُرَادُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَجْزَاءِ أَيْ طَعَامُهُمْ مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ لَا مِنْ أَجْزَاءِ الشَّعِيرِ وَإِذَا صَارَ عِبَارَةً عَنْ أَكْلِ مَا فِيهَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْعَيْنِ كَمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ. وَلَا يُقَالُ فَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ يَلْزَمُ أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ السَّوِيقِ عِنْدَهُمَا لِوُجُودِ أَكْلِ مَا فِي بَاطِنِهَا. لِأَنَّا نَقُولُ السَّوِيقُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ جِنْسِ الدَّقِيقِ عِنْدَ هُمَا، وَلِهَذَا جَوَّزَا بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ مُتَفَاضِلًا فَلَا يَكُونُ مَا أَكَلَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحِنْطَةِ فَلَا يَحْنَثُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ.
قَوْلُهُ (وَالشُّرْبُ مِنْ الْفُرَاتِ) تَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ هُنَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِجَعْلِ قَوْلِهِ مِنْ الْفُرَاتِ مَجَازًا لِشُرْبِ مَاءِ الْفُرَاتِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسِ الْفُرَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُضْمِرَ فِيهِ مَاءَ الْفُرَاتِ. وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَوَابٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ آخَرَ يَأْخُذُ مِنْ الْفُرَاتِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ صَارَ مَجَازًا لِشُرْبِ مَاءِ الْفُرَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ.
بَلْ الصَّحِيحُ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا لِشُرْبِ مَاءٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْفُرَاتِ مُجَاوِرٍ لَهُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ يَشْرَبُونَ مِنْ الْوَادِي وَمِنْ الْفُرَاتِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا قُلْنَا وَالْأَخْذُ بِالْأَوَانِي لَا يَقْطَعُ هَذِهِ النِّسْبَةَ فَيَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَالِاغْتِرَافِ جَمِيعًا لِعُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ مَاءَ الْفُرَاتِ يَصِحُّ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْبَعْضِ حَتَّى لَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ الْفُرَاتِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَاءِ. وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَذْكُورٍ نَصًّا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَذْكُورًا مُقْتَضَى الشُّرْبِ وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَصِحُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute