للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّذْرِ فَلَيْسَ بِجَمْعٍ بَلْ هُوَ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ وَيَمِينٌ بِمُوجِبِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمُبَاحِ يَصْلُحُ يَمِينًا بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ وَصَارَ ذَلِكَ كَشَرْيِ الْقَرِيبِ تَمَلُّكٌ بِصِيغَتِهِ وَتَحْرِيرٌ بِمُوجِبِهِ فَهَذِهِ مِثْلُهُ.

ــ

[كشف الأسرار]

نِيَّةُ التَّعْمِيمِ فِيهِ كَمَا لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَذَا فِي الْجَامِعِ الْبُرْهَانِيِّ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّذْرِ فَلَيْسَ بِجَمْعٍ) يَعْنِي لَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ بِجَمْعِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صِيغَتُهُ دَالَّةً عَلَى النَّذْرِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَتَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْيَمِينِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ لَا غَيْرُ وَلَكِنَّهُ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ مُوجِبِهِ أَيْ حُكْمِهِ وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ النَّذْرِ لُزُومُ الْمَنْذُورِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ قَبْلَ النَّذْرِ مُبَاحَ التَّرْكِ لِيَصِحَّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا عُرِفَ فَإِذَا لَزِمَ الْمَنْذُورُ بِالنَّذْرِ صَارَ تَرْكُهُ الَّذِي كَانَ مُبَاحًا حَرَامًا بِهِ وَصَارَ النَّذْرُ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ وَهُوَ لُزُومُ الْمَنْذُورِ، وَتَحْرِيمُ الْمُبَاحِ يَمِينٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ

النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ مَارِيَةَ أَوْ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ التَّحْرِيمَ يَمِينًا وَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ حَيْثُ قَالَ. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: ١] . إلَى أَنْ قَالَ. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: ٢] . أَيْ شَرَعَ لَكُمْ تَحْلِيلَهَا بِالْكَفَّارَةِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَ رَقَبَةً فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ» وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ فَكَانَ النَّذْرُ بِوَاسِطَةِ مُوجِبِهِ يَمِينًا لَا بِصِيغَتِهِ بَلْ هُوَ بِصِيغَتِهِ نَذْرٌ لَا غَيْرُ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ سُمِّيَ إعْتَاقًا فِي الشَّرْعِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ إزَالَتَهُ لَكِنَّهُ بِصِيغَتِهِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» . فَكَانَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَا بِصِيغَتِهِ. وَكَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ بَيْعٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَكَذَا هَذَا. (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ النَّذْرُ يَمِينًا بِاعْتِبَارِ مُوجِبِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي ثُبُوتِهَا إلَى نِيَّةٍ كَالْعِتْقِ فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَيْثُ قَالَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَمَرِضَ فِي الْغَدِ فَأَفْطَرَ أَوْ كَانَ الْحَالِفُ امْرَأَةً فَحَاضَتْ كَانَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ (قُلْنَا) بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ خَرَجَتْ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهَا فَصَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَذَا قِيلَ.

وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمُوجِبِ النَّذْرِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْمَنْذُورِ بِهِ ثَابِتٌ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ يَمِينًا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ فَإِنَّ النَّصَّ جَعَلَهُ يَمِينًا عِنْدَ الْقَصْدِ وَلَمْ يُرِدْ الشَّرْعُ بِكَوْنِهِ يَمِينًا عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ وَثُبُوتِهِ ضَمًّا فَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِهِ يَمِينًا لِوُجُودِ شَرْطِهِ لَكِنْ بِمُوجِبِ النَّذْرِ لَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي كَلَامِهِ كَلِمَتَانِ. أَحَدُهُمَا يَمِينٌ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ وَاللَّامَ يَتَعَاقَبَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ فِرْعَوْنَ {آمَنْتُمْ لَهُ} [الشعراء: ٤٩] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: ١٢٣] . الْأُخْرَى نَذْرٌ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيَّ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَلَبَ مَعْنَى النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَوَاهُمَا فَقَدْ نَوَى بِكُلِّ لَفْظٍ مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِي كَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ إيجَابًا

<<  <  ج: ص:  >  >>