للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ جُعِلَتْ فُرُوعًا وَثَمَرَاتٍ لِلنِّكَاحِ وَبُنِيَ النِّكَاحُ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مَعْلُومٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ لَهَا وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْت أَصْلًا وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَمَا صَحَّ إيجَابُ الْعِوَضِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلِهَذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قُلْنَا لَمَّا شُرِعَ هَذَا الْحُكْمُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَلَا يَخْتَصَّانِ بِالْمِلْكِ وَضْعًا وَلُغَةً فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهِيَ لِلتَّمْلِيكِ وَضْعًا أَوْلَى

ــ

[كشف الأسرار]

دُونَ لَفْظٍ

فَائِدَةٌ وَلَا عُسْرَ فِي الْعِبَارَةِ وَلَا حَرَجَ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ أَفْصَحَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ إنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ. وَإِمَامُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ ابْنَتَهُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ فَأَجَازَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ.

وَلَمَّا ثَبَتَ الِانْعِقَادُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ثَبَتَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْإِيجَابِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ وَالنِّكَاحِ لَا يَكُون إلَّا بِعِوَضٍ فَكَانَ الْبَيْعُ أَقْرَبَ إلَى النِّكَاحِ مِنْ الْهِبَةِ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَاب بِقَوْلِهِ وَالْجَوَابُ أَيْ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ مُقَامَ لَفْظَيْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِانْعِدَامِ الْمُجَوِّزِ هُوَ أَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَسَائِرَ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ. وُضِعَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ. وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ أَيْ مُوجِبٌ لَهُ إذَا كَانَ الْمَحِلُّ قَابِلًا لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِهِ تَبَعًا لَهُ فَكَانَ أَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ اسْتِعَارَةُ اللَّفْظِ لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ سَبَبًا لَهُ كَمَا اسْتَعَارَتْ لَفْظَ السَّمَاءِ لِلْكَلَإِ فِي قَوْلِهِمْ:

إذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ

أَيْ الْكِلَأَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:

رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا

؛ لِأَنَّ السَّمَاء سَبَبُ الْمَطَرِ وَالْمَطَرُ سَبَبُ الْكِلَأَ وَكَمَا اسْتَعَارُوا لَفْظَ الْمَسِيسِ لِلْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَسَّ سَبَبُ انْبِعَاثِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ مُؤَدِّي إلَى الْجِمَاعِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ الشَّأْنُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُودِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ بِوَاسِطَةِ الرَّقَبَةِ قَامَ هَذَا الِاتِّصَالُ مَقَامَ الِاتِّصَالِ الذَّاتِيِّ بَيْنَ الْمَحْسُوسِينَ. فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ لِهَذَا الِاتِّصَالِ أَيْ لِأَجْلِ هَذَا الِاتِّصَالِ الْمَوْجُودِ بَيْن السَّبَبَيْنِ وَالْحُكْمَيْنِ. الْمُرَادُ بِالسَّبْيَيْنِ أَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ وَأَلْفَاظُ النِّكَاحِ وَمِنْ الْحُكْمَيْنِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ فَالِاتِّصَالُ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ أَحَدُهُمَا بِوَاسِطَةٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَذَا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَقَامَ أَلْفَاظِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ يَعْنِي فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ لِهَذَا الْمَجَازِ وَهُوَ النِّكَاحُ لِنُبُوَّتِهِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِأَلْفَاظِ الْعِتْقِ لِصَلَاحِيَةِ الْمَحَلِّ لِلْوَصْفِ بِالْحَقِيقَةِ (فَإِنْ قِيلَ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ غَيْرُ مَا يَثْبُتُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ لِتَغَايُرِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَنَحْوِهَا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ لَا يُعْرَفُ سَبَبًا لِلنَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بَلْ عُرِفَ سَبَبًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِهَا.

(قُلْنَا) مِلْكُ الْمُتْعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ الِانْتِفَاعِ وَالْوَطْءِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ لَكِنَّ تَغَايُرَ الْأَحْكَامِ لِتَغَايُرِهِمَا حَالًا لَا ذَاتًا فَإِنَّهُ فِي بَابِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِهِ وَفِي مِلْكِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ تَبَعًا لَهُ وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِتَغَايُرِ الْحَالَةِ مَعَ اتِّحَادِ الذَّاتِ كَالثَّمَرَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالشَّجَرِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الشَّفِيعِ وَلَا يَتَعَلَّقُ إذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَاخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِتَغَايُرِ الْحَالِ دُونَ الذَّاتِ وَنَحْنُ إنَّمَا اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي الْمَحَلِّ فَيَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَحَلُّ فَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْهِبَةِ مَجَازًا أَثْبَتْنَا بِهِ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَصْدًا لَا تَبَعًا فَيَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ وَلَا يَثْبُتُ أَحْكَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ

قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ) أَيْ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ شُرِعَ لِأُمُورٍ لَا تُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>