وَإِنَّمَا ثَبَتَ السَّعْيُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: ١٥٨] غَيْرَ أَنَّ السَّعْيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْتِيبٍ وَالتَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمُقَدَّمِ ظَاهِرًا وَهَذَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ فَرُجِّحَ بِهِ فَصَارَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا بِفِعْلِهِ لَا بِنَصِّ الْآيَةِ وَهَذَا كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ النَّوَافِلِ إنَّهُ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى قُوَّةِ الِاهْتِمَامِ وَصَلَحَ لِلتَّرْجِيحِ فَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَمِائَةٌ وَثَوْبٌ وَمِائَةٌ وَشَاةٌ وَمِائَةٌ وَعَبْدٌ فَلَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى حُكْمِ الْعَطْفِ بَلْ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ يُذْكَرُ فِي بَابِ الْبَيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ بِخَبَرِهَا فَلَا تَجِبُ بِهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْخَبَرِ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَالِقٌ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْلُقُ وَاحِدَةً فَسَمَّى بَعْضُهُمْ هَذِهِ وَاوَ الِابْتِدَاءِ أَوْ وَاوَ النَّظْمِ وَهَذَا فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُهَا لَكِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَبَرِ كَانَتْ وَاجِبَةً لِافْتِقَارِ الْكَلَامِ الثَّانِي إذَا كَانَ نَاقِصًا فَأَمَّا إذَا كَانَ تَامًّا فَقَدْ ذَهَبَ دَلِيلُ الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْجُمْلَةَ النَّاقِصَةَ تُشَارِكُ الْأُولَى فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوْلَى بِعَيْنِهِ حَتَّى قُلْنَا فِي قَوْلِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَنَّ الثَّانِيَ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِبْدَادَ بِهِ كَأَنَّهُ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى هَذِهِ الضَّرُورَةِ اسْتِحَالَةَ الِاشْتِرَاكِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحَالَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَصْلُ مِثْلُ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو الثَّانِي يَخْتَصُّ بِمَجِيءٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي مَجِيءِ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَصَارَ الثَّانِي ضَرُورِيًّا وَالْأَوَّلُ أَصْلِيًّا
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: ١٥٨] لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ وَمَعَالِمِ الْحَجِّ وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ الصَّفَا فِيهِ مِنْ الْمَعَالِمِ كَانَتْ الْمَرْوَةُ فِيهِ كَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا ثَبَتَ السَّعْيُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ أَنَّهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ فِيمَ ثَبَتَ وُجُوبُ السَّعْيِ أَوْ شَرْعِيَّتِهِ فَقَالَ إنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: ١٥٨] وَلِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ هُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا لِأَنَّهُ قَالَ فَلَا جُنَاحَ وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْوَاجِبِ وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ هُوَ وَاجِبٌ بِهَذَا النَّصِّ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ} [البقرة: ١٥٨] أَيْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فَلِتَحَرُّجِ النَّاسِ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ صَنَمَيْنِ كَانَا عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إسَافٌ وَنَائِلَةُ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ كَرِهُوا التَّعَبُّدَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَنَفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ السَّعْيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْتِيبٍ) يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلسَّعْيِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَكِنَّ السَّعْيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْتِيبٍ وَالْبِدَايَةُ بِالذِّكْرِ فِي مُصْطَلَحِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ عِنَايَةٍ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَقُوَّةِ اهْتِمَامٍ بِهِ كَمَا إذَا فَارَقَك مَنْ كُنْت مَشْغُوفًا بِهِ وَقِيلَ لَك مَا الَّذِي تَتَمَنَّى تَقُولُ وَجْهَ الْحَبِيبِ أَتَمَنَّى فَتُقَدِّمُ وَجْهَ الْحَبِيبِ لِكَوْنِهِ نُصْبَ عَيْنِك وَلِزِيَادَةِ الْتِفَاتِ خَاطِرِك إلَيْهِ وَلَمَّا دَلَّتْ الْبِدَايَةُ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ ظَهَرَ بِهَا نَوْعُ قُوَّةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّرْجِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَدَلَّ فِي تَفْضِيلِ الْمُهَاجِرِينَ أَوْ تَعْيِينِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ بِتَقْدِيمِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: ١١٧] فَذَلِكَ رَجَّحَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالتَّقْدِيمِ فَقَالَ «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» أَوْ قَالَ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» .
وَصَارَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا بِفِعْلِهِ وَبِقَوْلِهِ لَا بِنَصِّ الْآيَةِ قَوْلُهُ (فَأَمَّا قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْعَطْفُ يُفَسِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ حَتَّى كَانَتْ الْمِائَةُ دَرَاهِمَ فَأَنَّى لَمْ يُجْعَلْ مُفَسِّرًا فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ يُقَالُ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ فَكَيْفَ جُعِلَ مُبَيِّنًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَإِذَا جُعِلَ مُبَيِّنًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلِمَ تَخَلَّفَ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَطْفِ لِيَلْزَمَ اطِّرَادُهُ بَلْ عَلَى أَصْلِ الْآخِرِ يَقْرَعُ سَمْعَك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
قَوْلُهُ (بِخَبَرِهَا) الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَامِلَةٍ أَيْ كَمَا لَهَا بِخَبَرِهَا فَلَا يَجِبُ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْعَطْفِ. وَهَذَا فَضْلٌ أَيْ تَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهَا وَاوَ الِابْتِدَاءِ أَوْ النَّظْمِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا بَلْ هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ كَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إلَّا أَنَّ عَمَلَهَا فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَامِلَةِ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْكَامِلَةُ وَفِي عَطْفِ الْكَامِلَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ مَضْمُونَيْ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْحُصُولِ لَكِنَّ الشَّرِكَةَ اسْتِدْرَاكٌ عَنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا هِيَ الْعَطْفُ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُهَا أَيْ هِيَ لِلْعَطْفِ لَكِنَّهَا لَا تُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِافْتِقَارِ الْكَلَامِ الثَّانِي إيَّاهَا لِعَدَمِ إفَادَتِهَا بِدُونِهَا لَا بِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ الثَّانِي مُفِيدًا بِنَفْسِهِ ذَهَبَ دَلِيلُ الشَّرِكَةِ وَهُوَ الِافْتِقَارُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ لِلِافْتِقَارِ وَالضَّرُورَةِ قُلْنَا إنَّ الْجُمْلَةَ النَّاقِصَةَ تُشَارِكُ الْأُولَى فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأُولَى بِعَيْنِهِ وَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أُعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ إذْ هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute