وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ عَلَى الْعِلَلِ أَيْضًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُومُ فَتَصِيرُ بِمَعْنَى التَّرَاخِي كَمَا يُقَالُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وَقَدْ نَجَوْت وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْمَأْذُونِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ يَعْتِقُ لِلْحَالِ وَتَقْدِيرُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَإِنَّك قَدْ عَتَقْت لِأَنَّ الْعِتْقَ دَائِمٌ فَأَشْبَهَ الْمُتَرَاخِيَ وَقَالُوا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ انْزِلْ فَأَنْتَ آمِنٌ إنَّهُ آمِنٌ نَزَلَ أَوْ لَمْ يَنْزِلْ لِمَا قُلْنَا فَلَمْ يُجْعَلْ بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ أَضْمَرَ الشَّرْطَ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَحَّ بِدُونِ الْإِضْمَارِ وَإِنَّمَا الْإِضْمَارُ ضَرُورِيٌّ فِي الْأَصْلِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ إنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَيُصْرَفُ التَّرْتِيبُ إلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْوَاجِبِ أَوْ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرْتِيبِ لَغْوٌ فَحُمِلَ عَلَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ لِتَحْقِيقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ دِرْهَمٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالشِّعْرُ لَا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ ... يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
وَقَوْلُهُ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: ٤]
ــ
[كشف الأسرار]
الْوَلَدِ الْوَالِدَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْوُجُودَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا وَقَدْ حَصَلَ لِلْوَلَدِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ فَلَا يُمْكِنُ لِلْوَلَدِ مُجَازَاتُهُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْوَلَدِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْأَبِ لَا يُمَاثَلُ بِنِعْمَةِ الْوُجُودِ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْأَحْوَالِ وَمَا صَدَرَ مِنْ الْأَبِ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ لَا إذَا وَجَدَهُ مَمْلُوكًا وَأَعْتَقَهُ بِالشِّرَاءِ " فح " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ نَوْعَ مُجَازَاةٍ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ مَوْتٌ حُكْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: ١٢٢] أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ فَإِذَا أَزَالَ عَنْهُ هَذَا الْوَصْفَ بِالشِّرَاءِ صَارَ كَأَنَّهُ أَحْيَاهُ بَعْدَمَا فَنِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مُقَابَلًا بِإِحْسَانِهِ وَمُجَازَاةً لِإِنْعَامِهِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيضِ وَالتَّرْغِيبِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُجَازَاةِ الْأَبَوَيْنِ وَمُكَافَأَتِهِمَا بِحَالٍ إذَا أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ فِي إحْسَانِهِمَا إلَيْهِ وَإِشْفَاقِهِمَا عَلَيْهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا ضَيَّعْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ مَا ضَيَّعُوا مِنْ حَقِّك يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بَيْنَهُمَا بِعَمَلٍ آخَرَ أَوْ يُؤَخِّرَ الدُّخُولَ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ بِعَمَلٍ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ عَلَى الْعِلَلِ) الْأَصْلُ أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْعِلَلِ وَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ لِاسْتِحَالَةِ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ إلَّا أَنَّهَا قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَوَامٌ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ دَائِمَةً كَانَتْ فِي حَالَةِ الدَّوَامِ مُتَرَاخِيَةً عَنْ ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ فَيَصِحُّ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَيْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي قَيْدِ ظَالِمٍ أَوْ حَبْسِ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ ضِيقٍ أَوْ مَشَقَّةٍ إذَا ظَهَرَ آثَارُ الْفَرَجِ وَالْخَلَاصِ لَهُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وَقَدْ نَجَوْت بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَوْثَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْإِبْشَارِ بَاقٍ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْإِبْشَارِ وَيُسَمَّى هَذِهِ الْفَاءُ فَاءَ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ وَالْإِبْشَارُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ بَشَّرْته بِمَوْلُودٍ فَأَبْشَرَ أَيْ صَارَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِهِ وَهَهُنَا بِمَعْنَى اللَّازِمِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْغَوْثِ الْمُغِيثُ قَوْلُهُ (أَنَّهُ يَعْتِقُ لِلْحَالِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِلتَّعْلِيلِ فَيَصِيرُ مَعْنَاهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا لِأَنَّك حُرٌّ فَلِذَلِكَ يَتَنَجَّزُ بِهِ الْعِتْقُ.
وَقَوْلُهُ وَلَمْ يُجْعَلْ بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ أَضْمَرَ الشَّرْطَ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَلَّا جَعَلْت قَوْلَهُ أَدِّ إِلَيَّ أَلْفًا عِلَّةً وَقَوْلَك فَأَنْتَ حُرٌّ ثَابِتًا بِهِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْفَاءِ وَالْأَدَاءُ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ كَمَا فِي صُورَةِ الْوَاوِ فَقَالَ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَاهُ كَذَلِكَ احْتَجْنَا إلَى إضْمَارِ الشَّرْطِ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَإِذَا صَحَّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُقَالُ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ التَّرْتِيبُ وَالْعِلَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا بَيَّنَّا لِأَنَّا نَقُولُ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ الْفَاءِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَدَامَةً يَحْصُلُ التَّرْتِيبُ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْإِضْمَارِ ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى أَصْلِ الْكَلَامِ فَقَالَ وَلِهَذَا قُلْنَا أَيْ وَلِأَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ.
قُلْنَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ إنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ وَمِنْ شَرْطِهِ الْمُغَايَرَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْعَطْفِ لَكِنَّ التَّرْتِيبَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَاءِ وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ هَهُنَا لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ هُوَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ زَمَانًا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ وَهُوَ الْفِعْلُ دُونَ الْعَيْنِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ هَذَا أَوَّلٌ وَهَذَا آخِرٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا ثَبَتَ أَوَّلًا أَوْ جَلَسَ أَوْ قَامَ أَوْ نَحْوُهُ وَالدَّرَاهِمُ فِي الذِّمَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute