للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ بِحَالٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا إنَّ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَالَ لَا أَقْرَبُكُنَّ إلَّا فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ فَلَيْسَ بِمُولٍ مِنْهُمَا وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ بَرِئَ فُلَانٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَهُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إنَّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْإِبَاحَةِ فَصَارَ عَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ الْحَظْرِ فَكَانَ إبَاحَةً وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ مِنْ التَّحْرِيمِ حَتَّى أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا ثَبَتَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: ٣١] الْآيَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْإِبَاحَةِ جَازَ لَهُنَّ إبْدَاءُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ كَمَا جَازَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجَبَهَا فِي الْإِبَاحَةِ الْعُمُومُ بِمَنْزِلَةِ وَاوِ الْعَطْفِ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إنَّ أَوْ فِي قَوْلِك جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ لِلْإِبَاحَةِ وَمَعْنَاهُ أَبَحْت لَك هَذَا النَّوْعَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ مِنْ وَجْهٍ وَمُفَارِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

أَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِلْوَاوِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ مُجَالَسَتَهُمَا جَمِيعًا مِمَّا لَا يَكُونُ فِيهِ عِصْيَانٌ كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ كَانَ كَذَلِكَ وَأَمَّا مُفَارَقَتُهُ لِلْوَاوِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَالَسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُجَالِسْ الْآخَرَ كَانَ جَائِزًا وَلَوْ قَالَ جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجَالِسَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَوْ يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ وَالْوَاوُ يُوجِبُهُ

قَوْلُهُ (وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّخْيِيرِ) أَيْ الْفَرْقُ بَيْنَ وُقُوعِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ وَبَيْنَ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ يَجُوزُ كَمَا ذَكَرْنَا وَفِي التَّخْيِيرِ لَا يَجُوزُ فَفِي قَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَوْ ضَرَبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَانَ مُمْتَثِلًا بِأَحَدِهَا لَا بِالْجَمِيعِ لِأَنَّهَا لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي مَوْضِعِ التَّخْيِيرِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ بِحَالٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ عُرِفَتْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا وَقَوْلِهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ لِلْحَظْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَكَانَتْ كَلِمَةُ أَوْ فِي قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَإِلَّا فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ وَاقِعَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَأَوْجَبَتْ الْعُمُومَ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا آكُلُ طَعَامًا إلَّا خُبْزًا أَوْ لَحْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُمَا فَكَذَلِكَ هَهُنَا.

قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَانَ نَفْيًا وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّفْيِ كَانَ إثْبَاتًا لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَالنَّفْيُ مِنْ دَلَالَاتِ الْعُمُومِ فَيَعُمُّ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا.

وَكَذَا فِي قَوْلِهِ قَدْ بَرِئَ فُلَانٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَهُ يُوجِبُ حَطَّ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْحَظْرِ مَعْنًى فَيَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) إلَى آخِرِهِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شُرُوطِ الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا كَتَبَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا وَمَرَافِقِهَا وَطَرِيقِهَا وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ فِيهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَخَارِجٍ مِنْهَا بِكَذَا كَذَا دِرْهَمًا.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَعْنِي كِتَابَ الشُّرُوطِ يَقُولُ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَفِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَالشُّفْعَةِ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَاَلَّذِي ذَكَرَ هَهُنَا أَحْسَنُ لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ أَوْ أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ لَا كِلَاهُمَا فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ هَهُنَا لِأَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ الْأَصْلُ حُرْمَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهَذَا الْكَلَامُ لِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ فِي الْحُقُوقِ وَإِبَاحَتِهِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَعْنَى إبَاحَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>