وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى إنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى أَدْخُلَ هَذِهِ فَإِنْ دَخَلَ الْأُولَى أَوَّلًا حَنِثَ وَإِنْ دَخَلَ الْأَخِيرَةَ أَوَّلًا انْتَهَتْ الْيَمِينُ وَتَمَّ الْبِرُّ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْعَطْفَ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَالْغَايَةُ صَالِحَةٌ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ حَظْرٌ وَتَحْرِيمٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ــ
[كشف الأسرار]
دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَنُهِيَ عَنْ سُؤَالِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ لِلتَّحْرِيمِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْغَايَةِ.
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَعْنِي أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى وَإِلَّا أَنْ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ مِثْلُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ ... وَأَيْقَنَ أَنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا
فَقُلْت لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُك إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
وَمِثْلُ قَوْلِ الْآخَرِ:
لَا أَسْتَطِيعُ نُزُوعًا عَنْ مَوَدَّتِهَا ... أَوْ يَصْنَعَ الْبَيْنُ بِي غَيْرَ الَّذِي صَنَعَا
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ أَوْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْغَايَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى أَنَّ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَعْنَى حَتَّى فَيَحْنَثُ بِدُخُولِ الْأُولَى أَوَّلًا وَإِنْ دَخَلَ الْأُخْرَى أَوَّلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ازْدِوَاجٌ تَعَذَّرَ الْعَطْفُ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْغَايَةَ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ فَتُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ وَحُمِلَتْ عَلَى الْغَايَةِ مَجَازًا فَإِذَا دَخَلَ الْأُولَى قَبْلَ الْأُخْرَى فَقَدْ بَاشَرَ الْمَحْظُورَ بِيَمِينِهِ فَحَنِثَ وَإِذَا دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا فَقَدْ أَصَرَّ عَلَى الْبِرِّ إلَى وُجُودِ الْغَايَةِ فَصَارَ بَارًّا كَمَا لَوْ.
قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ كَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ إلَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الْعَطْفِ بِاعْتِبَارِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ النُّحَاةِ فَإِنَّ النَّفْيَ يُعْطَفُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَعَلَى الْعَكْسِ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَمَا جَاءَنِي عَمْرٌو وَمَا رَأَيْت عَمْرًا لَكِنْ رَأَيْت بِشْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: ٨٢] فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَعَذَّرَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَقَدُّمِ فِعْلٍ مَنْصُوبٍ يُعْطَفُ الثَّانِي عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْ أَدْخُلُ بِالرَّفْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْعَطْفُ وَيَثْبُتَ التَّخْيِيرُ أَوْ يُقَالُ تَعَذُّرُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ مَعَ أَنْ فِي حُكْمِ الِاسْمِ وَانْتِصَابُهُ هَهُنَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِضْمَارِ أَنْ فَيَلْزَمُ مِنْهُ عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ فَاسِدٌ فَلِذَلِكَ جُعِلَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ.
وَقَوْلُهُ وَالْغَايَةُ صَالِحَةٌ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَبَدًا أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ فَإِنَّ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ النَّفْيَ مُؤَبَّدٌ وَالْإِثْبَاتَ مُوَقَّتٌ وَالْمُوَقَّتُ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِلْمُؤَبَّدِ لِأَنَّ الْمُؤَبَّدَ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِالْمَوْتِ وَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ غَايَةً وَجَبَ الْعَمَلُ بِالتَّخْيِيرِ فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا الْكَفَّارَةَ بِإِحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ حَنِثْت فِي هَذِهِ الْيَمِينِ أَوْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ وَشَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى الدُّخُولُ فِي الدَّارِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ تَرْكُ الدُّخُولِ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَوْمِ فَإِذَا دَخَلَ الْأُولَى حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى وَبَطَلَتْ الْيَمِينُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ فِي الْتِزَامِ الْحِنْثِ بِإِحْدَى الْيَمِينِ فَإِذَا لَزِمَهُ الْحِنْثُ بِأَحَدَيْهِمَا بَطَلَتْ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَحَنِثَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ.
وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ الْأُولَى وَدَخَلَ الدَّارَ الثَّانِيَةَ الْيَوْمَ بَرَّ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَبَطَلَتْ الْأُولَى لِأَنَّهُ اخْتَارَ يَمِينَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِيهَا الدُّخُولُ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَوْمِ وَقَدْ فَاتَ فَيَحْنَثُ فِيهَا وَتَبْطُلُ الْأُولَى لِمَا قُلْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -