فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهَا فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ الْكَفَّ عَنْهُ قَبْلَ الْغَايَةِ وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةِ الْإِتْيَانِ وَالْإِتْيَانُ يَصْلُحُ سَبَبًا وَالْغِدَاءُ يَصْلُحُ جَزَاءً فَحُمِلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّبَبِ غَايَتُهُ فَاسْتَقَامَ الْعَمَلُ بِهِ فَصَارَ شَرْطُ بِرِّهِ فِعْلَ الْإِتْيَانِ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِالْغِدَاءِ وَقَدْ وُجِدَ وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك كَانَ هَذَا لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ إحْسَانٌ فَلَا يَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ وَلَا يَصْلُحُ إتْيَانُهُ سَبَبًا لِفِعْلِهِ وَلَا فِعْلُهُ جَزَاءً لِإِتْيَانِ نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الْعَطْفِ الْمَحْضِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أُغَدِّيَك فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَدَّى عِنْدَك حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ
ــ
[كشف الأسرار]
اللَّيْلَةِ دِلَالَاتُ الْإِقْلَاعِ أَيْ الْإِمْسَاكِ وَالْكَفِّ عَنْ الضَّرْبِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الضَّرْبِ بِهَا. فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهَا أَيْ بِحَقِيقَةِ الْغَايَةِ وَحَمْلُ حَتَّى عَلَيْهَا فَإِذَا أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَةِ كَانَ حَانِثًا. فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ الْبِرِّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَلِمَاذَا يَحْنَثُ فِي الْحَالِ. قُلْنَا الْيَمِينُ تَقَعُ عَلَى أَوَّلِ الْوَهْلَةِ لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْيَمِينِ غَيْظٌ لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْحَالِ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ الْيَمِينُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْحَقِيقَةِ عُرْفٌ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا عُرْفٌ ظَاهِرٌ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى أَقْتُلَك أَوْ حَتَّى تَمُوتَ كَانَ هَذَا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَصْدُهُ الْقَتْلَ لَا يُذْكَرُ لَفْظَةَ الضَّرْبِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْقَتْلَ وَجَعْلُ الْقَتْلِ غَايَةً لِبَيَانِ شِدَّةِ الضَّرْبِ مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ.
وَلَوْ قَالَ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْك أَوْ حَتَّى تَبْكِيَ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مُعْتَادٌ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (حَتَّى تُغَذِّيَنِي لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ) التَّغْذِيَةُ لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى انْتِهَاءِ الْإِتْيَانِ وَكَذَا الْإِتْيَانُ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ أَيْضًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ فِيهِ فَفَاتَ شَرْطَا الْغَايَةِ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْذِيَةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَةِ إحْسَانٌ بَدَنِيٌّ إلَى الْمَزُورِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِإِحْسَانٍ مَالِيٍّ مِنْهُ إلَى الزَّائِرِ وَعَنْ هَذَا قِيلَ مَنْ زَارَ حَيًّا وَلَمْ يُذَقْ عِنْدَهُ شَيْئًا فَكَأَنَّمَا زَارَ مَيِّتًا. وَالتَّغْذِيَةُ صَالِحَةٌ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ أَيْضًا فَيَصْلُحُ مُكَافَأَةً لِلْإِحْسَانِ.
وَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَةُ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِتْيَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ بِأَنْ أَتَاهُ لِيَضْرِبَهُ أَوْ يَشْتُمَهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْذِيَةِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْبِرِّ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى أُغَذِّيَك. وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك أَوْ قَالَ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى تُغَذِّيَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ. لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَيْ التَّغَذِّيَ مِنْ غِذَاءِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِبَاحَةِ إحْسَانٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت» . أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ عِنْدَ الْإِبَاحَةِ إسَاءَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى الْعَدَاوَةِ حَتَّى أَوْجَسَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه خِيفَةً فِي نَفْسِهِ مِنْ الضَّيْفِ إذْ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ ضِيَافَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مُنْهِيًا لِلْإِتْيَانِ. أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ التَّغْذِيَةُ أَيْ التَّغْذِيَةُ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا الغذي إحْسَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا تَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ بَلْ هِيَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ إذْ الْإِنْسَانُ عَبِيدُ الْإِحْسَانِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ حَتَّى عَلَى الْغَايَةِ وَلَا يَصْلُحُ إتْيَانُهُ سَبَبًا لِفِعْلِهِ أَيْ الْفِعْلُ نَفْسُهُ كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِإِتْيَانِهِ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ أَيْضًا فَحُمِلَ عَلَى الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْفَاءِ أَوْ بِمَعْنَى ثُمَّ لِأَنَّ التَّعْقِيبَ يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ فَيَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلَيْنِ بِوَصْفِ التَّعْقِيبِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَذَّى عِنْدَك قَوْلُهُ (حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَذَّ) إلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَمَّا إنْ وَقَّتَ بِالْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك. أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ. فَإِنْ وَقَّتَ فَشَرْطُ الْبِرِّ وُجُودُ الْفِعْلَيْنِ فِي الْيَوْمِ وَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ أَحَدِهِمَا فِيهِ حَتَّى إذْ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ وَتَغَذَّى عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُتَّصِلًا بِالْإِتْيَانِ أَوْ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَانَ بَارًّا لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ. إلَّا إذَا عَنَى الْفَوْرَ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute