وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ اعْتَدِّي، ثُمَّ رَاجَعَهَا» ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ وَاحِدَةٌ يُحْتَمَلُ نَعْتًا لِلطَّلْقَةِ وَيُحْتَمَلُ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ فَإِذَا زَالَ الْإِبْهَامُ بِالنِّيَّةِ كَانَ دَلَالَةً عَلَى الصَّرِيحِ لَا عَامٌّ لَا بِمُوجِبِهِ.
ــ
[كشف الأسرار]
التَّوَافُقِ فِي الصِّيغَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْت ابْنَتِي مِنْك وَقَوْلُهُ زَوَّجْت ابْنَتِي مِنْك مُتَوَافِقَانِ صِيغَةً.
وَكَذَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ نَوَى.
وَأُجِيبَ بِأَنَّا نَجْعَلُهُ مُسْتَعَارًا وَعِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ كُونِي طَالِقًا، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا تو طَلَاق باش أَوْ طَلَاق شو تَطْلُقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ اعْتَدِّي؛ لِأَنِّي طَلَّقْتُك فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُكْمِ عَنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ وَأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ. يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ فِي كَلَامِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: طَلَّقْتُك فَاعْتَدِّي، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُعْمِلُ نِيَّتَهُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ عَامِلٍ فِيهِ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ مُضْمَرٌ فِيهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَقَوْلِهِ اعْتَدِّي قَوْلُهُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: اعْتَدِّي إذْ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ، إلَّا أَنَّ طَلَبَ الِاسْتِبْرَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَطْءِ وَطَلَبِ الْوَلَدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَاحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ اقْتِضَاءً وَقَبْلَهُ اسْتِعَارَةً كَمَا بَيَّنَّا.
وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِالسُّنَّةِ وَمُسْتَفَادٌ مِنْهَا فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ بِفَتْحَتَيْنِ اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا وَذَلِكَ حِينَ دَخَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ أَقَارِبِهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَتَرْثِيهِمْ بِإِشْعَارِ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَرِهَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ مِنْهَا فَقَالَ لَهَا اعْتَدِّي فَنَدِمَتْ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَشْفَعَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ إنِّي أَكْتَفِي بِأَنْ أُبْعَثَ مِنْ أَزْوَاجِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرَاجَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ (وَكَذَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ) يَعْنِي وَكَقَوْلِهِ اعْتَدِّي قَوْلُهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ فِي أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ عِنْدَ النِّيَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَقَعُ بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً صِفَةٌ لَهَا وَهِيَ لَا يَحْتَمِلُ طَلَاقًا فَلَغَتْ النِّيَّةُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ قَاعِدَةٌ وَنَوَى طَلَاقًا. إلَّا أَنَّا نَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَاحِدَةٌ نَعْتًا لَهَا أَيْ وَاحِدَةٌ عِنْدَ قَوْمِك أَوْ مُنْفَرِدَةً عِنْدِي لَيْسَ لِي مَعَك غَيْرُك أَوْ وَاحِدَةُ نِسَاءِ الْبَلَدِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِتَطْلِيقَةٍ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الْوَصْفِ مَقَامَهُ كَقَوْلِك أَعْطَيْته جَزِيلًا أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَإِذَا نَوَى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ هَكَذَا وَنَوَى طَلَاقًا صَحَّ فَإِنَّهَا بِنَفْسِهَا لَا يَكُونُ تَطْلِيقَةً وَلَكِنْ يَكُونُ طَالِقًا تَطْلِيقَةً فَيَصِيرُ تَطْلِيقَةٌ قَائِمَةً مَقَامَ طَالِقٍ فَتُنْعَتُ نَعْتَهُ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ.
وَرَأَيْت فِي التَّهْذِيبِ لِمُحِبِّي السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِيهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا لَا يَقَعُ، إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَنْوِيَّهُ خِلَافُ مَلْفُوظِهِ وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِاللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ يَقَعُ مَا نَوَى وَمَعْنَى وَاحِدَةً أَيْ تَتَوَحَّدِينَ مِنِّي بِهَذَا الْعَدَدِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا غَيْرَ مَأْخُوذٍ عِنْدَهُمْ.
وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا رَفَعَ الْوَاحِدَةَ لَا تَطْلُقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّهَا وَلَا تَصْلُحُ نَعْتًا لِلطَّلْقَةِ فَيَصِيرُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَإِنْ نَصَبَهَا تَطْلُقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا، إلَّا لِلطَّلْقَةِ وَإِنْ أَسْكَنَ الْهَاءَ فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ.