للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الصَّرِيحُ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَفِيهَا قُصُورٌ مِنْ حَيْثُ يَقْصُرُ عَنْ الْبَيَانِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْبَيَانِ بِالْكَلَامِ هُوَ الْمُرَادُ فَظَهَرَ هَذَا التَّفَاوُتُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَصَارَ جِنْسُ الْكِنَايَاتِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورَاتِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ، إلَّا بِتَصْرِيحِ الزِّنَا حَتَّى أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا فَقَالَ لَهُ آخَرُ صَدَقْت لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَسْتَ بِزَانٍ يُرِيدُ التَّعْرِيضَ بِالْمُخَاطَبِ لَمْ يُحَدَّ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ تَعْرِيضٍ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا فَقَالَ آخَرُ: هُوَ كَمَا قُلْت حُدَّ هَذَا الرَّجُلُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ لِمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ــ

[كشف الأسرار]

وَالْمُخْتَارُ أَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ كَانَ دَلَالَةً يَعْنِي إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَكَانَ مُعَقِّبًا لِلرَّجْعَةِ لَا عَامِلًا بِمُوجِبِهِ إذْ مُوجِبُهُ التَّوْحِيدُ، وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي الْبَيْنُونَةِ وَقَطْعُ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ بِمُوجِبِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الصَّرِيحُ) لِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِلْإِفْهَامِ وَالصَّرِيحُ هُوَ التَّامُّ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ وَصَارَ جِنْسُ الْكِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورَاتِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِفْهَامُ مِنْ الْكَلَامِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالصَّرِيحِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِهِ لِقُصُورِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ عَدَمُ الصَّرِيحِ. وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ فِي الْكِنَايَةِ قُصُورًا عَنْ الْبَيَانِ قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَصْرِيحِ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتَ أَوْ أَنْتَ زَانٍ.

وَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ مَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فَإِذَا قَالَ جَامَعْت فُلَانَةَ أَوْ وَاقَعْتُهَا أَوْ وَطِئْتُهَا لَا يُحَدُّ مَا لَمْ يَقُلْ نِكْتُهَا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ فَجَرْت لِفُلَانَةَ أَوْ جَامَعْتُهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا.

لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَدَقْت أَنَّهُ زَانٍ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ هُوَ كَمَا قُلْت.

وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَلَا يُحَدُّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْفِظُ بِمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْكِنَايَةِ عَنْ الْقَذْفِ لِاحْتِمَالِ التَّصْدِيقِ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً أَيْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا مَضَى فَكَيْفَ تَكَلَّمْت بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ أَوْ صَدَقْت فِي إنْجَازِ وَعْدِك بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا، وَيَحْتَمِلُ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يُفْهَمُ مِنْهُ تَصْدِيقُهُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الْحَدِّ.

بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ كَمَا قُلْت لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ.

وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ صَدَقْت كَصَرِيحِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّامِي لَا لِلْمَقْذُوفِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهُ وَإِنَّمَا يَتَّصِلُ بِهِ اقْتِضَاءُ صِدْقِ الْأَوَّلِ فِيمَا رَمَاهُ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يَثْبُتُ بِالْمُقْتَضَى؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ.

بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ كَمَا قُلْت؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ هُوَ إخْبَارٌ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ كَقَوْلِك أَنْتَ فِي الْمُخَاطَبَةِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.

وَالتَّعْوِيضُ نَوْعٌ مِنْ الْكِنَايَةِ يَكُونُ مَسُوقًا لِمَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ كَمَا نَقُولُ فِي عَرَضِ مَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي وَيُزَكِّي وَلَا يُؤْذِي أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَيُتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ الْمُؤْذِي، كَذَا فِي الْمِفْتَاحِ.

وَفِي الْكَشَّافِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ هُوَ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ وَالتَّعْرِيضَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ جِئْتُك لِأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلِأَنْظُرَ إلَى وَجْهِك الْكَرِيمِ فَكَأَنَّ إمَالَةَ الْكَلَامِ إلَى عَرَضٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ وَيُسَمَّى التَّلْوِيحُ؛ لِأَنَّهُ يُلَوِّحُ مِنْهُ مَا تُرِيدُهُ فَإِذَا عَرَّضَ بِالزِّنَا قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَسْت بِزَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحَدُّ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي حَالَةِ الْمُخَاصَمَةِ مَعَ الْغَيْرِ نِسْبَةُ صَاحِبِهِ إلَى شَيْنٍ وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لِلْغَيْرِ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِ لَا لِأَنَّهُ إنْ تَصَوَّرَ مَعْنَى الْقَذْفِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَوْلُهُ (فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ لِمَا عُرِفَ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي قَوْلِهِ هُوَ كَمَا قُلْت أَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>