فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابَلُ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى نَافَى الدِّيَةَ فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ مَحْضٌ خَالِصٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَالْعُقُوبَةُ جَزَاءٌ لِلْفِعْلِ الْمَحْضِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَجَرِ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَعَمَّ الْقَوَدَ وَالْكَفَّارَةَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَجِبُ بِالْعَمْدِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ السَّهْوُ دَلِيلًا عَلَى الْعَمْدِ لِمَا قُلْنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا
ــ
[كشف الأسرار]
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَرُدُّ إشْكَالًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ أُسْتَاذِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ تَنْتَفِي عَنْ الدَّمِ بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ بَقِيَتْ فِي ذِمَّةٍ فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِهَذَا يَرِثُ الْحَرْبِيُّ وَلَا يَرِثُ الذِّمِّيُّ وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِصْمَةِ يَثْبُتُ التَّقَوُّمَ فِي نَفْسِهِ حِينَ اسْتَأْمَنَ كَمَا يُثْبِتُ التَّقَوُّمَ فِي مَالِهِ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ فَصَارَ حَالُهُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ كَحَالِ الذِّمِّيِّ فَكَمَا يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا، فَكَذَلِكَ يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُثَقَّلِ أَثَّرَتْ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ كَمَا أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّبْهَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَلَمْ تُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ. فَأَجَابَ وَقَالَ: الشُّبْهَةُ هَاهُنَا فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ دَمَ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمَاثِلُ دَمَ الْمُسْلِمِ فِي الْعِصْمَةِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مُسْتَأْمَنًا آخَرَ أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، كَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.
فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ أَيْ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ مُقَابَلٌ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الدِّيَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الْمَحَلِّ مَعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ بَدَلَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ لَمَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهُ كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ لِمَالِكِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا إذْ الْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَالْقِيمَةُ بَدَلُ الْمَحِلِّ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مُقَابَلًا بِالْمَحَلِّ بِوَجْهٍ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ عِنْدَنَا جَزَاءُ الْفِعْلِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْمَقْتُولِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَيُقْتَلُ جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ بَدَلَ الْمَحَلِّ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الشُّبْهَةِ كَافٍ لِانْتِفَاءِ الْقِصَاصِ.
فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ مَحْضٌ خَالِصٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ أَيْ لَا يَدُورُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ إذْ الْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمَحْضِ لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ عَنْ الْمَحِلِّ بِوَجْهٍ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْمَحَلِّ.
وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَجَرِ أَيْ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْقَتْلِ خِلْقَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَوَضْعُ الْآلَةِ لِتَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي فِعْلِ الْعَبْدِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ. فَعَمَّتْ الْقَوَدَ وَالْكَفَّارَةَ أَيْ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ جَمِيعًا.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْخَطَإِ وَالْمَعْقُودَةَ لَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَالْغَمُوسِ قُلْنَا: السُّجُودُ الْمَشْرُوعُ فِي السَّهْوِ لَا يَجِبُ بِالْعَمْدِ أَيْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute