وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَتَلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْخَطَأِ وَهِيَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا فَتَثْبُتُ بِشُبْهَةِ السَّبَبِ كَمَا ثَبَتَ بِحَقِيقَتِهِ وَذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي الْكِتَابِ شِبْهَ الْعَمْدِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَ نَصًّا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ
ــ
[كشف الأسرار]
يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَأَمَّا الْحَظْرُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ وَبِهِ تَرْتَفِعُ النُّقُوضُ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا عَمْدًا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. وَفِي الْأَسْرَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَلَا تَلْزَمُ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ مَعَ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ فِي نَفْسِهِ مَحْظُورٍ بِصَوْمِهِ كَجِمَاعِ الْأَهْلِ وَأَكْلِ خُبْزِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ تَمَحُّضُ الْحَظْرِ لِحَقِّ الْفِطْرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْفِطْرِ لَا شُبْهَةُ إبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ حَتَّى إذَا زَنَى فِي رَمَضَانَ وَذَلِكَ الزِّنَا حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ الصَّوْمِ وَحَرَامٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَجَبَ بِكَوْنِهِ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ الْحَدُّ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ وَبِسَبَبِ الْمَعْنَى الْآخَرِ كَفَّارَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْغَاءِ حُرْمَةِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ فِي نَفْسِهِ لَوْلَا الصَّوْمُ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ لَا بِالْجِمَاعِ نَفْسِهِ وَالْإِفْطَارُ بِاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ وَالِاقْتِضَاءُ فِي نَفْسِهِ حَلَالٌ وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَمْ يَصِرْ حَرَامًا مُحْصَنًا لِمَا حَلَّ فِي نَفْسِهِ لِوُجُودِهِ فِي مَحَلِّهِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهَا طَاعَةٌ مَحْضَةٌ، وَقَدْ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكَبِيرَةِ الْمَحْضَةِ فَمَا هُوَ طَاعَةٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنْ الْجِنَايَةِ وَنَقْضٌ لَهَا وَنَقْضُ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِهِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَى دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حُرْمَةَ مَا ارْتَكَبَهُ قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَتَلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ) يَعْنِي وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا قُلْنَا الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا مَحْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ شُبْهَةُ الْخَطَإِ فَإِنَّهُ مِنْ خَطَإِ الْعَمْدِ عِنْدَهُ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» عَلَى مَا عُرِفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُثَقَّلَ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ آلَةُ التَّأْدِيبِ أَلَا تَرَى أَنَّ إجْرَاءَهُ لِلتَّأْدِيبِ بِهَا وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلتَّأْدِيبِ مُبَاحًا فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ بِاعْتِبَارِ الْآلَةِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا خَطَأَ الْعَمْدِ أَيْ شِبْهُ الْعَمْدِ كَانَ مَحْظُورًا مِنْ حَيْثُ الْعَمْدِيَّةُ وَمِنْ حَيْثُ الْخَطَأُ لَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ إبَاحَةِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ.
وَالْكَفَّارَةُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا لِرُجْحَانِ جِهَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا فَيَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْخَطَأِ كَمَا يَثْبُتُ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْ جَعَلَ مُحَمَّدٌ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ شَبَهَ الْعَمْدِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَإِنَّمَا أَكَّدَ الشَّيْخُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْجَصَّاصِ وَبِدَلَالَةِ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لَا تَجِبُ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْإِيضَاحِ وُجِدَتْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَا كَفَّارَةَ فِي شَبَهِ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْإِثْمَ كَامِلٌ مُتَنَاهٍ وَتَنَاهِيهِ يَمْنَعُ شَرْعَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ.
١ -
قَوْلُهُ (وَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَكُونَ عَمْدًا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ يَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute