وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ لَوْ قَالَ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ أَنَّهُ يَصِحُّ عَنْ الْآمِرِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُقْتَضًى بِالْعِتْقِ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِهِ فَيَسْتَغْنِي عَنْ التَّسْلِيمِ كَمَا اسْتَغْنَى الْبَيْعُ عَنْ الْقَبُولِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ فَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْقَبْضِ وَهُوَ شَرْطٌ أَوْلَى، وَهَذَا كَمَا قَالَ: اعْتِقْ عَبْدَك هَذَا عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُعْتَقُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مِثْلُ الْهِبَةِ لِمَا قُلْنَا.
ــ
[كشف الأسرار]
الْأَرْضِ لِلزَّارِعَةِ يَقْتَضِي شُرْبَهَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ إمْكَانِ الزِّرَاعَةِ فَكَانَ طَلَبُ الْإِعْتَاقِ عَنْهُ طَلَبًا لِلتَّمْلِيكِ أَوْ لَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ وَكَانَتْ الْإِجَابَةُ مِنْ الْمَأْمُورِ تَمْلِيكًا مِنْهُ أَوْ لَأَثِمَ إعْتَاقًا مِنْهُ فَيَثْبُتُ تَمْلِيكٌ بِأَلْفٍ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ كَأَنَّهُمَا عَقَدَا الْبَيْعَ، ثُمَّ حَصَلَ الْإِعْتَاقُ بَعْدَهُ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ كَفِّرْ عَنِّي فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، إلَّا بِمَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ تَمْلِيكٌ أَوْ إقْرَاضٌ مِنْهُ أَوْ لَا اقْتِضَاءَ، ثُمَّ تَوَكَّلَ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ فَكَذَا هَذَا.
وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِإِعْتَاقِ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَبْدَك الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ لَك لِلْحَالِ لَا عِنْدَ مُصَادَفَةِ الْعِتْقِ إيَّاهُ فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الْعَبْدِ لَا إضَافَتُهُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ قَالَ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنِّي.
وَقَوْلُهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ قُلْنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُعْتِقُهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَمْرِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ مَا أَمَرَ بِهِ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ وَجَعَلْنَا الْعَبْدَ مَمْلُوكًا لَهُ صَارَ هَذَا بَيْعَ الْعَبْدِ وَإِجَارَتَهُ وَكِتَابَتَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَائِزٌ فَأَمْكَنَ التَّصْحِيحُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: تَزَوَّجِي، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا الْمُقْتَضَى لِتَصْحِيحِ الْمَلْفُوظِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّا إذَا حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالتَّزَوُّجِ فَإِنَّهَا تَتَزَوَّجُ بِمَالِكِيَّتِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا لَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِهِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً؛ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ تَزَوُّجِهَا الْفَرَاغُ عَنْ الْأَوَّلِ لَا الطَّلَاقُ فَلَمْ يَصِرْ مُقْتَضِيًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الِاقْتِضَاءُ، إلَّا ضَرُورَةً قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْعِتْقِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَا بِشُرُوطِ نَفْسِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَأَعْتَقَهُ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْأَمْرِ وَتَثْبُتُ الْهِبَةُ اقْتِضَاءً كَمَا يَثْبُتُ الْبَيْعُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ أَوْ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ بِالْإِعْتَاقِ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْإِعْتَاقِ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ مَقْصُودًا كَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضُ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ فَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الرُّكْنُ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِاقْتِضَاءِ الْعِتْقِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ شَرْطٌ أَوْلَى، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ تَرْكِيبِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِشُرُوطِ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ بِلَا قَبْضٍ فَكَذَا الْهِبَةُ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ.
وَهَذَا أَيْ ثُبُوتُ الْهِبَةِ بِلَا اشْتِرَاطِ قَبْضٍ مُقْتَضًى مِثْلُ ثُبُوتِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِلَا اشْتِرَاطِ قَبْضٍ مُقْتَضًى فِيمَا إذَا قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ.
وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: الْقَبْضُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى قَوْلٌ وَهُوَ دُونَ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ بِخِلَافِ الْقَبُولِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ اُعْتُبِرَ شَرْعًا فَيَصِحُّ أَنْ يَسْقُطَ شَرْعًا تَصْحِيحًا لِكَلَامٍ آخَرَ فَقَالَ: قَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ أَيْضًا اقْتِضَاءً كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مِثْلُ الْهِبَةِ أَيْ فِي تَوَقُّفِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. لِمَا قُلْنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute