وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَبَيْنَ الْمَحْذُوفِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ وَهُوَ ثَابِتٌ لُغَةً وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا اقْتَضَى غَيْرَهُ ثَبَتَ عِنْدَ صِحَّةِ الِاقْتِضَاءِ وَإِذَا كَانَ مَحْذُوفًا فَقُدِّرَ مَذْكُورًا انْقَطَعَ عَنْ الْمَذْكُورِ
ــ
[كشف الأسرار]
مُنْكَرًا فَصَحَّ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ إذْ الظَّاهِرُ لِلْعُمُومِ فَلَا يَصْدُقُ قَضَاءً.
فَصَارَ أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِي غَيْرِ الْمَلْفُوظِ لَغْوٌ فَإِذَا ذَكَرَ الْفِعْلَ وَنَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ الْوَقْتَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. أَوْ الْحَالَ كَمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ قَائِمٍ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ وَأَرَادَ حَالَ قِيَامِهِ.
أَوْ الصِّفَةَ كَمَا إذَا قَالَ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَأَرَادَ امْرَأَةً كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً كَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا.
وَلَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: يَحْنَثُ بِكُلِّ طَعَامٍ وَكُلِّ شَرَابٍ وَكُلِّ مَكَان وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ حَصَلَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِالْجَمْعِ وَهَذَا آيَةُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعُمُومِ بَلْ لِحُصُولِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَوَّرَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ بِدُونِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَكَانِ لَحَصَلَ الْحِنْثُ أَيْضًا وَهُوَ كَالْوَقْتِ وَالْحَالِ فَإِنَّهُ لَوْ أَكَلَ وَهُوَ خَارِجُ الدَّارِ أَوْ دَاخِلُهَا أَوْ رَاكِبٌ أَوْ رَاجِلٌ يَحْنَثُ لَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَكِنْ لِحُصُولِ الْمَلْفُوظِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَكَذَا هَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْخُرُوجِ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَطَ فِي الْمُقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَمْرًا شَرْعِيًّا كَمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْذُوفِ فَقَالَ: فَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَكَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضَى شَرْعًا لَا لُغَةً مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ لِافْتِقَارِ الْأَكْلِ إلَى الطَّعَامِ وَالشُّرْبِ إلَى الشَّرَابِ وَالْخُرُوجُ إلَى الْمَكَانِ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ الشَّرْعِ بَلْ يَعْرِفُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّرْعَ أَصْلًا، إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُقْتَضَى هُوَ الَّذِي ثَبَتَ ضَرُورَةً تَصْحِيحُ الْكَلَامِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا لَا لُغَةً كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُقْتَضَى هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَا يَكُونُ مَنْطُوقًا بِهِ لَكِنْ يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَلْفُوظِ شَرْعًا، إلَّا بِهِ كَقَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي. أَوْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عَقْلًا بِدُونِهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: ٢٣] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إضْمَارَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ أَوْ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ بَلْ لَا يُعْقَلُ تَعَلُّقُهَا، إلَّا بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. أَوْ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ صَادِقًا، إلَّا بِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ لَكِنْ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ إذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ نَظَائِرِ الْمَحْذُوفِ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا فَيَصِيرُ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفُ قِسْمًا وَاحِدًا وَهُوَ خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ عَلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الِاقْتِضَاءِ مَمْنُوعٌ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي تِلْكَ النُّسْخَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُتَعَدِّي يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ بِصِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ لُغَةً فَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَإِنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْكَلَامِ أَوْ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ) إلَى آخِرِهِ اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute