وَمَا حُذِفَ اخْتِصَارًا وَهُوَ ثَابِتٌ لُغَةً كَانَ عَامًّا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الِاخْتِصَارَ أَحَدُ طَرِيقَيْ اللُّغَةِ فَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ مِثْلُ تَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا
ــ
[كشف الأسرار]
قَبِيلِ الْمُقْتَضِي.
وَلَمَّا سَلَكَ الشَّيْخُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَزِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِعُمُومِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ ثَابِتٌ لُغَةً لَا اقْتِضَاءً فَكَانَ مِثْلَ الْمُصَرَّحِ بِهِ وَلَوْ صُرِّحَ بِهِ لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ أَوْ بِإِطْلَاقِهِ فَكَذَا هَذَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ مَشَايِخُنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِعُمُومِهِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ إذْ لَيْسَ مَانِعٌ مِنْ الْعُمُومِ غَيْرَهُ فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: سُقُوطُ عُمُومِهِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الِاقْتِضَاءِ وَلَكِنَّهُ مِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَقْبَلُ الْعُمُومَ أَيْضًا كَالْمُقْتَضِي عِنْدَنَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ عُمُومِهِ كَوْنُهُ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ فِي بَابِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَحْذُوفِ وَأَمَّا مَا حُذِفَ اخْتِصَارًا كَانَ عَامًّا أَيْ يَقْبَلُ الْعُمُومَ لِأَنَّ الِاخْتِصَارَ أَحَدُ طَرِيقَيْ اللُّغَةِ فَكَانَ الْمُخْتَصَرُ ثَابِتًا لَفْظًا وَالْعُمُومُ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْمُقْتَضِي فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ ضَرُورَةً وَإِنَّهَا تَنْدَفِعُ بِالْخَاصِّ فَلَا يُصَارُ إلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الشَّيْءِ بِلَا دَلِيلٍ هَذَا بَيَانُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الشَّيْخُ هَاهُنَا وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَدْ اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ طَرِيقَةَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي التَّقْوِيمِ.
وَمَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنْ يَقُولَ: الْعَلَامَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَا يَصْلُحُ فَارِقَةً بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُقْتَضِي قَدْ يَتَغَيَّرُ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي يَتَغَيَّرُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْمُقْتَضِي وَهُوَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْعَبْدُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِلْكًا لِلْمَأْمُورِ بَلْ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْأَمْرِ وَصَارَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدِي عَنِّي وَهَذَا تَغْيِيرٌ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ إنْ اغْتَسَلَ اللَّيْلَةَ فِي الدَّارِ فَكَذَا يَتَغَيَّرُ الْفِعْلُ وَالْمُسْنَدُ إلَيْهِ بِتَصْرِيحِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْفَاعِلُ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ.
وَفِي الْمَحْذُوفِ قَدْ لَا يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ بَعْدَ إظْهَارِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: ٦٠] وَأَمْثَالِهِ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ حَتَّى صَحَّ فِيهِ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ لِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْكَلَامُ بِتَصْرِيحِهِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْجَوَابِ لَا يُغْنِي شَيْئًا لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ كَلَامٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضْمَارٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ بِتَصْرِيحِهِ لَا يُعْرَفُ بِلُزُومِ تَقَرُّرِ الْكَلَامِ فِي الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ لُزُومِهِ فِي الْمَحْذُوفِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّقَرُّرِ وَإِنْ امْتَازَ أَحَدُهُمَا لِجَوَازِ التَّغَيُّرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُجْعَلُ الْكُلُّ بَابًا وَاحِدًا وَكَذَا الْمُقَدَّرُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ الَّذِي بَيَّنْتُمُوهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِدُونِهِ مُفِيدٌ لِلْمَعْنَى لُغَةً وَلِهَذَا لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِ الرَّسُولِ لَمَا قُدِّرَ فِيهِ شَيْءٌ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَعَلَى الْكَذِبِ وَإِنَّمَا قَدَّرَ فِيهِمَا مَا ذَكَرْنَا ضَرُورَةَ صِدْقِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ مَعَ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ.
وَقَوْلُكُمْ الْمُقْتَضِي لِتَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى وَتَقْرِيرِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُغَيِّرًا لَهُ مُسَلَّمًا وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لِتَصْحِيحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute